لاشك أن هناك ارتباط بدرجات متفاوتة بين الأزمات الدولية، فهناك نوع من التتًبع الإيراني لمسارات الأزمة الأمريكية ـ الكورية الشمالية طيلة السنوات الماضية، للاستفادة من دروسها وتطبيق السيناريو ذاته في العلاقات الإيرانية ـ الأمريكية، حيث شاهد الجميع كيف أن نظام الملالي الإيراني يستنسخ تكتيكات النظام الكوري الشمالي في إدارة العلاقة مع واشنطن منذ سنوات طويلة مضت، وبدا واضحاً أن التعاون بين طهران وبيونج يانج لم يقتصر على التعاون العسكري وفي المجال النووي، بل امتد أيضاً ليشمل استلهام دروس إدارة الأزمات، واستخدام سياسة "حافة الهاوية" في التعامل مع الإدارات الأمريكية المتعاقبة حتى جاءت إدارة الرئيس ترامب الذي يجيد هذه الدبلوماسية بشكل واضح، كما يجيد المراوغة والانتقال الفجائي من مربع التوتر إلى مربع التهدئة وفق حسابات إدارة الأزمة ومعطياتها وما تحققه من مكاسب استراتيجية للولايات المتحدة.
في سنغافورة، تم التوصل خلال القمة التاريخية التي جمعت بين ترامب و كيم جونغ أون على أن تبدأ بيونغ يانغ بالعمل نحو نزع سلاحها النووي، إلا أنه لم يتم تحديد أي جدول زمني أو تفاصيل أو آليات للتحقق من العملية، وتعهد كيم أيضاً بتفكيك موقع التجارب الصاروخية والموقع الرئيسي لإطلاق هذه الصواريخ، وقال إنه "قد يوقف موقع التجارب النووية إذا اتخذت الولايات المتحدة إجراء متبادلاً".
بعد القمة التي عقدت بين الرئيسين الكوري الشمالي والأمريكي، تبنى الجانبان لغة تهدئة مفاجئة للمراقبين، حيث انتقل خطاب الرئيس ترامب من وصف الزعيم الكوري الشمالية بألفاظ تصنف خارج قاموس الأدبيات المتعارف عليه بين رؤساء وقادة الدول، إلى وصفه بصفات إيجابية تشير إلى تغير المزاج العام للعلاقات بين الدولتين.
ورغم تعثر مفاوضات نزع السلاح النووي الكوري الشمالي، فإن بيونج يانج أصدرت مؤخراً مواقف أكثر تشدداً، حيث حذر وزير خارجية كوريا الشمالية من أنه ليس هناك أي مجال لنزع بلاده سلاحه النووي إذا استمرت الولايات المتحدة بفرض العقوبات عليها، وقال ري يونغ هو في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة إن "العقوبات المفروضة على بلاده عمقت عدم الثقة مع الولايات المتحدة".
الحديث عن مسألة "عدم الثقة" مجدداً رغم "تغريدات" الرئيس ترامب التي تحدث فيها عن "وقوعه في غرام "الزعيم الكوري الشمالي كيم جونج أون، وقال ترامب "لقد كنت عنيفا للغاية، وهكذا كان هو، ونحن نتبادل التهديدات.. ثم وقعنا في الحب"، وأضاف: "لقد كتب لي رسائل جميلة، وهي رسائل رائعة.. ووقعنا في الحب". وأشار ترامب إلى توقف بيونج يانج عن إجراء تجارب نووية، فضلاً عن التوقف عن إطلاق الصواريخ الباليستية، كدليل على أن نهجه مع كوريا الشمالية كان ناجحاً، بينما يقول المنتقدون إن البرنامج النووي لكوريا الشمالية ما زال مستمراً.
الأمر بات يثير تساؤلات جوهرية حول التأثير والتأثر المتبادل بين الأزمتين الكورية الشمالية من ناحية والإيرانية من ناحية ثانية، فرغم أجواء "الحب" التي أشار إليها ترامب، فإن وزير الخارجية الكوري الشمالي تحدث في الأمم المتحدة عن أن "موقف الولايات المتحدة يعتمد على تدابير قسرية تزيد من انعدام الثقة"، وأشار إلى أن "التصور بأن العقوبات يمكن أن تركعنا هو حلم بعيد المنال يراود الناس الذين يجهلوننا"، في عودة مفاجئة للغة الخشنة، التي انحسرت بشكل واضح عن الخطاب السياسي المتبادل بين البلدين خلال الأشهر الأخيرة.
من المؤكد أن الرئيس ترامب لن يعترف بأي تعثر في مسار المفاوضات مع كوريا الشمالية، ولاسيما في التوقيت الراهن بكل حساسيته المرتبطة بقرب انتخابات التجديد النصفي للكونجرس في نوفمبر المقبل، ناهيك عن أسلوب ترامب ذاته وصعوبة اعترافه بفشل سياساته.
هل تسبب انسحاب الرئيس ترامب من الاتفاق النووي مع إيران في تغيير نهج كوريا الشمالية، التي باتت تتحدث كثيراً عن "أزمة ثقة" لا تزال قائمة في الولايات المتحدة، وترفض بالتالي أي خطوات أحادية الجانب؟ وهل تأثرت كوريا الشمالية بتطورات الأزمة بين الولايات المتحدة وإيران؟
الأرجح أن كوريا الشمالية حالة معزولة بالنسبة للولايات المتحدة بحكم اختلاف بيئة الصراع ومعطيات الأزمة، ولكن حسابات كوريا الشمالية ذاتها لن تبتعد كثيراً عن مراقبة تطورات الأزمة الإيرانية ـ الأمريكية، ولاسيما في ظل وجود قاسم مشترك واحد هو القدرات النووي للطرفين، الإيراني والكوري الشمالي، وبالتالي فإن حالة التأثير والتأثر ستبرز حتماً لدى الطرفين في التعامل مع الولايات المتحدة، ويبدو أن تعنت كوريا الشمالية مجدداً قد يشجع النظام الإيراني على مواصلة العناد، ما يعيق توجه الرئيس ترامب الذي كان يحاول أن يجعل من معالجته للأزمة الكورية الشمالية نموذجاً يمكن الاقتداء به في التعامل مع الخطر النووي الإيراني.
لذا فإن الولايات المتحدة لابد من أن تراعي علاقة التأثير والتأثر هذه وتبلور استراتيجية شاملة للتعامل مع إيران آخذة بالاعتبار أن توجهات نظام الملالي الثيوقراطي قد تكون أكثر تطرفاً وتشدداً من نظيره الكوري الشمالي، وأن استعداد هذا النظام للمغامرات الطائشة ربما لا تقل عن نظام كوريا الشمالية.