في ظل عزلة إيران الإقليمية والدولية المتفاقمة بسبب ممارساتها التوسعية في العراق وسوريا ودعمها للإرهاب وميلشياته في اليمن و"حزب الله" اللبناني وغير ذلك من وكلاء نظام الملالي الطائفيين الذين تسببوا في نشر الفوضى والاضطرابات في مناطق شتى من عالمنا العربي خلال السنوات الأخيرة، وفي ظل توجه إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لوقف المد التوسعي الإيراني عبر الانسحاب من الاتفاق النووي وممارسة مزيد من الضغوط على إيران لإجبارها على سحب ميلشياتها من سوريا والعراق واحترام القانون الدولي وسيادة الدول الأخرى، اتجه الاتحاد الأوروبي إلى انتهاج سياسة منفردة حيال هذه الممارسات الإيرانية ولم يكتف بذلك بل انشأ مؤخراً كياناً للإفلات من العقوبات الأمريكية ضد إيران والسماح للنظام الإيراني بمواصلة سياساته وتوفير التمويل اللازم لمخططاته عبر استمرار التجارة وتصدير النفط مع الجانب الأوروبي!
الحقيقة أن موافقة دول الاتحاد الأوروبي على هذا الكيان الذي يستهدف بالأساس شراء النفط الإيراني إنما يعكس نهجاً أنانياً في السياسة الدولية، ويوفر طوق انقاذ يتيح لنظام الملالي البقاء على قيد الحياة والحد من أثر العقوبات الأمريكية، ورغم أن أوروبا تتغنى دائما بحقوق الانسان والدفاع عن الشعوب، فإننا نجد في الحالة الإيرانية تحديداً نهجاً أوروبياً ينسف كل الحديث الأوروبي عن هذه المسائل، فالشعب الإيراني يعاني بسبب سياسات نظامه، واحتج ملايين الإيرانيين لأيام طويلة في مدن إيران كافة يطالبون بحياة كريمة وتوجيه موارد الدولة الإيرانية للمصلحة شعبها والكف عن الانفاق على مغامرات خارجية للحرس الثوري، ولكن لم يستمع الأوروبيين لكل هذه الاحتجاجات وآثروا مصلحتهم في شراء النفط الإيراني، وواصلوا التعامل مع نظام تسبب في نشر الفوضى والاضطرابات في منطقة الشرق الأوسط، ذات الأهمية الحيوية للمصالح الاستراتيجية الأوروبية وخضعوا لشروط واملاءات النظام الإيراني، الذي يفرض شروطه بشكل غريب على الجانب الأوروبي!
تبالغ أوروبا في رؤيته بشأن خطر الانسحاب من الاتفاق النووي، كما تبالغ في الحديث عن جدوى هذا الاتفاق الذي منح نظام الملالي فرصة تاريخية لتحقيق أحلامه التوسعية ونشر ميلشياته الطائفية في الكثير من دول المنطقة، كما لم يحقق هذا الاتفاق أي نتائج تذكر في الحد من القدرات الصاروخية الإيرانية التي باتت تهدد أوروبا ذاتها!
تدافع مسؤولة السياسة الخارجية الأوروبية موغيريني عن إيران بشكل يثير الدهشة، ولا تدرك أن توفير منصة لتهرب إيران من العقوبات الأمريكية لا يصب في مصلحة الامن والاستقرار الإقليمي، ولا تدرك أيضاً أن النظام الإيراني يتخذ من الموقف الأوروبي ذريعة لمواصلة سياساته التوسعية ويمول برامج التسلح النووية والصاروخية عبر مبيعات النفط الذي يصدره لأوروبا، التي منحته هذه الميزة كل يواصل طموحاته العسكرية!
هناك خطأ فادح وعميق في الحسابات الاستراتيجية الأوروبية في التعامل مع إيران، ولم يكن من المفترض أن تسمح أوروبا لنظام الملالي باستغلال الشرخ الحاصل في العلاقات عبر الأطلسي لمصلحة هذا النظام الانتهازي.
لم توافق أوروبا على خطوة الرئيس ترامب بالانسحاب من الاتفاق النووي ولكنها لم تطرح ايضاً البديل الاستراتيجي الذي يوفر عامل الثقة في نوايا نظام الملالي، ويسهم في سد الثغرات الواضحة في الاتفاق النووي، كما لم تعمل على اقناع هذا النظام بالكف عن مواصلة برامج التسلح الصاروخية، بل لم تستغل حاجته لتصدير النفط في التفاوض حول مخاوف أوروبا والعالم من القدرات الصاروخية الإيرانية والحد من النشاط الإيراني المزعزع لأمن واستقرار منطقة الشرق الأوسط بأكملها!
كل ما فعلته أوروبا منذ انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي ان سعت بكل السبل للالتفاف على أي قرار أمريكي بشأن فرض عقوبات على إيران رغم أن الشركات الأوروبية ذاتها قد انسحبت من إيران خشية الوقوع تحت طائلة العقوبات الأمريكية وتضرر أنشطتها التجارية مع الولايات المتحدة إذا ما استمرت في التعامل مع إيران بعد انقضاء المهلة الأخيرة في نوفمبر المقبل.
اللافت ان أوروبا تتجاهل في مسلكها حيال إيران مخاوف شركائها في دول مجلس التعاون، بكل الثقل الاستراتيجي للعلاقات الاقتصادية والأمنية والسياسية بين هذه الدول والجانب الأوروبي، إذ لا يمكن مقارنة حجم التبادل التجاري بين السعودية والامارات والبحرين فقط من ناحية ودول الاتحاد الأوروبي من ناحية ثانية، ناهيك عن المصالح الاستراتيجية الأخرى التي لا تقل أهمية عن الاقتصاد والتجارة، وهذا بحد ذاته أمر محير في الرؤية الأوروبية لمنطقة الخليج العربي، ويصعب تفهم وجهة النظر التي تتجاهل تماماً وجهة نظر دول مجلس التعاون حيال الخطر والتهديدات الإيرانية التي لم تتوقف عن حد معين، بل باتت احد مصادر الفوضى وعدم الاستقرار في منطقتنا.