هل يمكن للمنطقة العربية، بعد عقود من الغرق في بحر الشعارات الرنانة والمزايدات العقيمة التي غذت التطرف وأدامت الصراع، أن تتجاوز هذا الإرث الثقيل وتنظر بواقعية وموضوعية إلى دولة إسرائيل كشريك محتمل في بناء مستقبل مختلف قوامه الاستقرار والتنمية؟ أم أنها ستبقى أسيرة لسرديات الماضي التي أثبتت فشلها الذريع، والتي لم تجلب لشعوبها سوى الدمار والخراب وضياع الفرص؟
إن التجارب التاريخية المتراكمة، والمعطيات الجيوسياسية الراهنة، تفرض بإلحاح ضرورة إجراء إعادة تقييم جذرية وشجاعة للعلاقة مع دولة إسرائيل، بعيداً عن الأوهام والأيديولوجيات البالية. فالمتابع المتعمق يكشف أن المنافسة المدمرة بين الأنظمة الدكتاتورية العربية، واستخدامها للقضية الفلسطينية كوقود لهذه المنافسة، لم يؤد فقط إلى إضعاف القضية نفسها، بل ساهم أيضاً في خلق بيئة خصبة للتطرف والعنف الذي يهدد الجميع. وفي مواجهة هذا الإرث المعقد، يصبح البحث عن قواسم مشتركة ومصالح متبادلة، بما في ذلك مع دولة إسرائيل، ضرورة استراتيجية لمواجهة التحديات الحقيقية التي تواجه المنطقة، وعلى رأسها إرث الأنظمة الشمولية، وخطر التطرف، ومتطلبات التنمية المستدامة.
الحقيقة أن القضية الفلسطينية لم تعد مجرد "شماعة" تستخدمها الأنظمة الدكتاتورية لتبرير وجودها وقمعها، بل تحولت أيضاً إلى ميدان رحب للمنافسة والمزايدات العقيمة بين هذه الأنظمة ذاتها. ففي ظل غياب أي مشروع وحدوي حقيقي، وفي سياق الصراعات الأيديولوجية والجيوسياسية التي عصفت بالمنطقة، سعت أنظمة دكتاتورية وفاسدة إلى استخدام القضية كورقة لتعزيز نفوذها الإقليمي وتأكيد "ثوريتها" المزعومة في مواجهة الأنظمة الأخرى، لا سيما تلك التي اعتبرتها "رجعية" أو "عميلة".
لقد تجلى هذا التنافس المدمر في سباق محموم على احتضان الفصائل الفلسطينية المختلفة، ودعمها بالسلاح والمال، وتوجيهها لخدمة أجندات متعارضة، مما أدى إلى تعميق الانقسام الفلسطيني وإضعاف القضية بشكل أكبر. والأخطر من ذلك، أن هذه الأنظمة المزايدة، التي كانت غالباً بعيدة عن خط المواجهة المباشر مع دولة إسرائيل، لم تتردد في دفع دول المواجهة، وعلى رأسها مصر، نحو أتون الحرب، مراهنة على استنزافها أو إضعافها، بينما كانت تنأى بنفسها عن تحمل أي مسؤولية حقيقية أو تقديم أي دعم فعلي يتناسب مع حجم الشعارات التي ترفعها. لقد كانت عملية "إدارة القطيع"، عبر التحكم بوسائل الإعلام وتأجيج المشاعر الشعبية بخطابات حماسية وشعارات زائفة مثل "رمي إسرائيل في البحر"، أداة أساسية لهذه الأنظمة لامتصاص النقمة الداخلية وتوجيهها نحو عدو خارجي، ولتأكيد شرعية زائفة لم تكن تستند إلى أي إنجاز حقيقي على أرض الواقع.
تبرز للواجهة حقيقة أن بعض هذه الأنظمة، في سعيها لإثبات "جديتها" المزعومة في مواجهة دولة إسرائيل أو في صراعاتها البينية، لم تتردد في استخدام أدوات أكثر عنفاً ودموية، تمثلت في توظيف التنظيمات الفلسطينية لتنفيذ عمليات إرهابية وعنف بالوكالة، سواء ضد أهداف إسرائيلية أو حتى ضد دول عربية أخرى. هذه العمليات، التي كانت تهدف في الغالب إلى إرسال رسائل سياسية أو تحقيق مكاسب تكتيكية ضيقة، لم تخدم القضية الفلسطينية بقدر ما أساءت إليها. والأدهى من ذلك، أن هذه البيئة المشحونة بالكراهية والعنف والمزايدات الأيديولوجية، والتي كرستها الأنظمة الدكتاتورية لعقود، شكلت تربة خصبة لنشوء أشكال جديدة وأكثر تطرفاً من الأيديولوجيات العنيفة. فمع تراجع بريق مايسمى بالقومية العربية والاشتراكية الثورية، ومع الدعم السخي الذي قدمته قوى إقليمية جديدة صاعدة تسعى بدورها إلى الهيمنة، برزت على السطح أحزاب وتنظيمات دينية يمينية متطرفة، تتبنى خطاباً أكثر حدة وتكفيرية، وتستخدم العنف كوسيلة أساسية لتحقيق أهدافها. لقد أدخل هذا التطور المنطقة في دوامة جديدة من العنف والدمار، وأبعد الحلول السلمية أكثر من أي وقت مضى، وأثبت مجدداً أن إرث الأنظمة الدكتاتورية لم يكن سوى إنتاج المزيد من التطرف والفوضى.
إن العائق الحقيقي أمام تحقيق الاستقرار والتنمية والسلام في منطقة الشرق الأوسط لم يكن، في جوهره، وجود دولة إسرائيل، بل هو طبيعة الأنظمة الشمولية والدكتاتورية التي حكمت معظم الدول العربية لعقود طويلة. فهذه الأنظمة، التي استولت على السلطة بالقوة، وحكمت بالحديد والنار، واستخدمت القضايا الوطنية كـ"شماعات" لتبرير فشلها وقمعها، هي التي جلبت الدمار والخراب لشعوبها قبل غيرها. لقد أهدرت موارد بلدانها في سباقات تسلح عبثية، وفي حروب بينية مدمرة، وفي دعم الإرهاب والتطرف، بينما أهملت التنمية الحقيقية، وقمعت الحريات، وكرست ثقافة الخوف والتآمر والخيانة.
إن نموذج الهيمنة الإقليمية الذي سعت إليه هذه الأنظمة، سواء كان قومياً أو دينياً، قد أثبت فشله الذريع مرة تلو الأخرى، ولم يخلف وراءه سوى دول فاشلة ومجتمعات ممزقة. وفي المقابل، وبالرغم من كل التحديات والتعقيدات المرتبطة بالصراع المستمر، قدمت دولة إسرائيل نموذجاً مختلفاً، استطاعت من خلاله بناء مؤسسات ديمقراطية، وتحقيق تقدم لافت في مجالات العلوم والتكنولوجيا والاقتصاد، وإدارة مجتمع متنوع الأعراق والثقافات. إن هذه المقارنة تفرض على العقل العربي المنفتح ضرورة إعادة توجيه البوصلة، والتساؤل بجدية: أليس من الأجدى، بعد كل هذا الدمار، البحث عن سبل للتعاون الإقليمي البناء، بما في ذلك مع دولة إسرائيل، لمواجهة التحديات المشتركة كالإرهاب والتطرف وشح المياه والتغير المناخي ومتطلبات التنمية المستدامة؟ ألا يمكن لدولة إسرائيل،أن تكون شريكاً حقيقياً في بناء شرق أوسط جديد يسوده السلام والازدهار؟ إن الإصرار على شيطنة إسرائيل واعتبارها مصدر كل الشرور، ليس سوى هروب من مواجهة المشاكل الحقيقية التي تعاني منها المجتمعات العربية، وعلى رأسها غياب الديمقراطية، وانتشار الفساد، وفشل نماذج التنمية، وتغلغل ثقافة الكراهية والتطرف.
إن استمرار المنطقة العربية في الدوران داخل حلقة مفرغة من الشعارات الجوفاء والمزايدات العقيمة، واستخدام القضية الفلسطينية كوقود للصراعات البينية والتطرف، لن يؤدي إلا إلى مزيد من الخسائر والدمار وتعميق حالة عدم الاستقرار التي تعصف بالجميع. لقد أثبتت تجربة العقود الماضية بما لا يدع مجالاً للشك أن نموذج الأنظمة الدكتاتورية الشمولية، التي حكمت باسم القومية أو الدين، قد فشل فشلاً ذريعاً في تحقيق تطلعات شعوبها نحو الحرية والكرامة والتنمية، بل وكان هو المصدر الرئيسي للعنف والفوضى والتخلف.
إن الشجاعة الحقيقية اليوم لا تكمن في التمسك بسرديات الماضي الفاشلة، أو في إلقاء اللوم على الآخرين، بل في القدرة على مراجعة المسلمات ونقد الذات، والتحرر من أغلال الأيديولوجيات البالية وثقافة الكراهية والتطرف. إن بناء مستقبل أفضل للمنطقة يتطلب تبني نهج واقعي يركز على المصالح الحقيقية للشعوب، وعلى رأسها بناء دول ديمقراطية تحترم حقوق الإنسان، وتحقيق التنمية المستدامة، ونبذ العنف، وتعزيز التعاون الإقليمي البناء.
وفي هذا السياق، فإن النظر إلى دولة إسرائيل، ليس كعدو أزلي، بل كشريك أساسي للبعض وللبعض الآخر محتمل في مواجهة التحديات المشتركة وتحقيق الازدهار، وبالتالي هذا الأمر يصبح ضرورة استراتيجية تفرضها حقائق الجغرافيا والمصالح المشتركة. إن الاستمرار في نهج المزايدات والتطرف، وتجاهل فرص التعاون الممكنة، لن يكون سوى وصفة لمزيد من المآسي والحروب التي لن يكون فيها رابح سوى قوى الظلام والتخلف.