في عام 2015 وقعت مجموعة »5+1» اتفاقاً مع نظام الملالي في إيران بهدف تحقيق تقييد مزعوم للبرنامج النووي الإيراني، في وقت كانت تحاول فيه إدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما إلي تجربة نسخة جديدة بتكتيك مختلف من استراتيجية الاحتواء التي كان قد سبق تجربتها وفشلت تماماً في لجم طموحات النظام الإيراني!
كان الهم الأكبر لإدارة أوباما وقتذاك هو اثبات مقدرتها علي فتح قنوات الحوار مع النظام المعادي للولايات المتحدة بغض النظر عن الثمن الاستراتيجي والسياسي المقابل لذلك، وعن عواقب هذه السياسة وقدرتها علي التماسك والاستمرار، كما لا يمكن نفي وقوعها تحت تأثير فرضية عبثية تقوم علي احتمالية انهيار النظام من الداخل في حال انفتاحه علي الخارج، وهي فرضية ممكنا نظرياً ولكن حدوثها عملياً يبقي رهن تحقق أركانها كافة، ولاسيما ما يتعلق بانفتاحه علي الخارج، حيث كان بعض مسئولي الإدارة السابقة يرون أن النظام قابل للانهيار أو علي الأقل تعديل سياساته تحت ضغط الملايين من الشباب الإيراني الذي يرغب في علاقات منفتحة مع الولايات المتحدة.
مثل هذه النظريات تتجاهل طبيعة النظام الاستبدادي الذي يقبض علي السلطة بالحديد والنار في إيران، ما يجعل من الصعب للغاية الرهان علي تفكك هذه القبضة بسبب عوامل ناعمة مثل الضغوط السياسية، والانفتاح »الفيسبوكي» علي الخارج وغير ذلك من عوامل لعبت دوراً ما في الحراك الحاصل في كثير من الدول العربية ضمن اضطرابات ما بعد عام 2011.
الحقيقة أن الجانب الأوروبي تحديداً يلعب الآن دوراً كبيراً في دعم نظام الملالي الإيراني بشكل غير مباشر من خلال اعتبار الاتفاق النووي بديلاً يمكن الاعتماد عليه في السيطرة علي الخطر النووي الإيراني؛ فالواقع يقول إن غياب البديل الحقيقي حتي الآن لا يعني مطلقا التمسك ببديل غير فاعل، لاسيما أن هذا البديل يوفر للطرف الآخر، أي النظام الإيراني، هامش مناورة كبيرة في مراوغة النظام الدولي والتعامل بشكل طبيعي في وقت يمثل فيه هذا النظام مصدر خطر داهم علي الأمن والاستقرار في منطقة الخليج العربي والشرق الأوسط بأكمله.
لا أحد يجادل في حق أوروبا في الدفاع عن مصالحها الاستراتيجية مع إيران رغم أن الأرقام والإحصاءات تنسف أي منطقية لهذه المصالح مقارنة بالمصالح الاستراتيجية المناظرة للاتحاد الأوروبي مع دول مجلس التعاون علي سبيل المثال، فالتبادل التجاري الأوروبي الخليجي قد بلغ نحو 143 مليار يورو، بحسب ارقام عام 2017، في حين تدور التجارة بين أوروبا وإيران في فلك لا يتجاوز 20 مليار دولار سنوياً في أحسن الأحوال!
مجمل المؤشرات تؤكد ضرورة تغيير الرؤية الاستراتيجية الأوروبية في منطقة الخليج العربي، فالميزان التجاري الأوروبي مع دول مجلس التعاون يحقق فائضا تجاريا كبيرا لمصلحة الاتحاد الأوروبي، الذي يعد الشريك التجاري الأول لدول مجلس التعاون، بينما تبقي دول مجلس التعاون الشريك التجاري السادس للاتحاد الأوروبي ورابع سوق تصديري هام مع صادرات بقيمة 100 مليار يورو.
كل هذه المصالح الاستراتيجية الهائلة لم تقنع أوروبا حتي الآن بضرورة الدفاع عن مصالحها الحقيقية في منطقة الخليج العربي، بل لا تزال تدافع عن اتفاق تسبب في تمدد إيران استراتيجياً وتوسعها في البرنامج الصاروخي الذي أصبح يهدد أمن دول أوروبا نفسها ومن المتوقع أن تبلغ صواريخ الملالي أمدية تهدد دولا أخري.
في كل مرحلة من مراحل التوسع والتمدد الاستراتيجي الإيراني، سواء بنشر الميلشيات في دول عربية، أو عبر تعزيز القدرات التسليحية النووية والصاروخية، فإن نظام الملالي يقترب من استنساخ نموذج كوريا الشمالية، حيث يصبح التفاوض معه أصعب فأصعب، بل وقد يبلغ مدي زمنيا يصعب التفاوض معه مسألة غير واردة بالمرة، لاسيما أن نظام الملالي يمتلك مشروعا توسعياً طائفياً، وهو يختلف في هذه الجزئية عن نظام بيونج يانج، الذي يضمر العداء لأنظمة مجاورة، ولكنه لم يترجم هذا العداء لأعمال عسكرية او خوض حروب بالوكالة علي شاكلة النظام الإيراني الذي فعل الكثير والكثير من أجل تقويض الأمن والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط.
حسابات أوروبا الاستراتيجية في تعاملها مع نظام الملالي قائمة علي خليط من الحسابات الاقتصادية والتجارية، وبعضها يتمثل في نظرة قائمة علي تأثير إيران وتداخلها في جميع أزمات الشرق الأوسط، وسوقها الكبير الذي يمكن أن يتسع لشريحة من الصادرات الأوروبية، وهذه في مجملها حسابات يمكن تفنيدها بالنظر إلي ما يسببه الموقف الأوروبي المرن حيال نظام الملالي، واخشي أن تكون جماعات الضغط الموالية لإيران في دوائر صنع القرار الأوروبية تلعب دوراً وتمارس تأثيراً كبيراً في تضليل الجانب الأوروبي لجهة فهم حدود وأبعاد الخطر الاستراتيجي الإيراني، لذا فإن علي مراكز الدراسات الأوروبية ودوائر صنع القرار أن تعيد حساباتها فيما يخص التعامل مع نظام الملالي من اجل بناء نظرة دقيقة تعلي مصالح أوروبا وشعوبها وتدرس جيداً خطورة الصمت علي ممارسات هذا النظام وانتهاكه لكل قواعد اللعبة في الشرق الأوسط قبل ان يدفع الجميع فاتورة الصمت أو سوء الفهم أو التردد أو الحذر الزائد، أياً كانت المسميات الحقيقية، حيال النظام الإيراني.