الحقيقة أن هناك أنظمة تفهم لغة الدبلوماسية باعتبارها دليلاً على الضعف والهوان، وتستغل هذه اللغة في كسب النفوذ والمضي في تحقيق أهدافها التوسعية عبر إستراتيجيات خوض حروب بالوكالة في دول عدة. وفي مقدمة هذه الأنظمة يقف نظام الملالي في إيران بما اكتسبه من شهرة لا ينافسه فيها أحد على صعيد التدخل الخارجي عبر وكلاء طائفيين ينشرون الفتن والاضطرابات في دول عدة بالمنطقة.
هذه الإستراتيجية الإيرانية التي تعمل منذ عام 1979، تحت شعار وهمي هو «نصرة المستضعفين»، كما يزعم الملالي في خطابهم السياسي، ليست سوى إستراتيجية استعمارية بامتياز، وهذه هي الحقيقة التي يتوارى ذكرها في توصيف الحالة الإيرانية في الإقليم؛ ولعل الدليل الأكبر على كونها إستراتيجية استعمارية أن القادة والمسؤولين الإيرانيين أنفسهم قد تباهوا في سنوات ماضية باحتلال أربع عواصم عربية، نعم احتلال، وليس الوجود العسكري أو السياسي مثلاً، بل استخدموا جميعاً تعبيرات لغوية مختلفة بعضها أسوأ من الاحتلال، حيث اعتبر ممثل مدينة طهران في مجلس الشورى الإيراني، علي رضا زاكاني، المعروف بقربه من المرشد الإيراني علي خامنئي أن العاصمة اليمينة صنعاء أصبحت العاصمة العربية الرابعة التابعة لإيران بعد كل من بيروت ودمشق وبغداد، مبيناً أن «ثورة الحوثيين في اليمن هي امتداد للثورة الخمينية»!!. وقال زاكاني نصاً إن «ثلاث عواصم عربية أصبحت اليوم بيد إيران، وتابعة للثورة الإيرانية الإسلامية»، مشيرا إلى أن صنعاء أصبحت العاصمة العربية الرابعة التي في طريقها للالتحاق بالثورة الإيرانية.
تأملوا جيداً الربط الأيديولوجي والطائفي في المنظور الإيراني لميلشيات الحوثي اليمنية، وهو ربط ينسف أي ادعاءات حول نفي العلاقة بين الطرفين.
علينا أيضاً أن نتأمل جيداً في مفهوم التبعية الذي يبدو أقصى من الاحتلال في وصف الهيمنة والسيطرة الإيرانية، حتى ولو كانت مزعومة وتعبر عن تفكير إيراني أحادي لا يعكس الواقع أو رغبة الشعوب والعواصم التي هيمنت الميلشيات الطائفية الإيرانية عليها، فالفكرة ليست في الواقع ولكنها في رؤية الملالي ومفهومهم للسياسة في منطقتنا، وهي رؤية أحادية مبتسرة قائمة على السيطرة والهيمنة وبسط النفوذ ولا علاقة لها بالاستضعاف ولا المستضعفين، بل لها علاقة وثيقة بمشروع استعماري يستدعيه الملالي من ذاكرة التاريخ القومي الفارسي ويلبسونه رداء طائفيًّا لكسب التعاطف الطائفي!
في إطار هذا الفهم الحقيقي لمشروع الملالي يمكن فهم الدعوة المنطقية التي وجهتها دولة الإمارات العربية المتحدة من على منصة الأمم المتحدة مؤخراً بشأن ضرورة الضغط بشكل جاد على إيران لحملها على وقف تدخلاتها التوسعية التي تزعزع الأمن والاستقرار في المنطقة، والكف عن دعمها وتسليحها للميلشيات الإرهابية الطائفية في الدول العربية.
وقد جاء البيان الإماراتي، الذي ألقاه سعود حمد الشامسي نائب المندوبة الدائمة للدولة لدى الأمم المتحدة، في مجلس الأمن الدولي ليوضح للعالم أن القاسم المشترك في أزمات المنطقة يتمثل في إيران، بوجودها في اليمن وسوريا والعراق وعلاقاتها المشبوهة مع «حزب الله» اللبناني، فهي السبب في معاناة عشرات الملايين من العرب في اليمن وسوريا، فضلاً عن تهديد الأمن والاستقرار في دول أخرى مثل مملكة البحرين الشقيقة، وتهديد الملاحة البحرية الدولية في الخليج العربي ومضيق باب المندب، وتعطيل وصول المساعدات الإنسانية للملايين من أفراد الشعب اليمني.
الطرح الإماراتي تمثل في ضرورة انتقال المجتمع الدولي من مرحلة إدارة الأزمة إلى منهج متكامل لحل النزاعات ومنع نشوبها، وهذا المنهج يتطلب بدوره قدراً كبيراً من الحزم والصرامة اللازمة للحفاظ على أمن واستقرار العالم، ومن دون ذلك فإن معاناة الملايين من أزمات مثل اللجوء وتفشي الأوبئة والأمراض والجوع والفقر ستبقى قيد الانتظار على أجندة المجتمع الدولي من دون حل خلال المستقبل المنظور بسبب استمرار منهج إدارة الأزمات وتدويرها والاكتفاء بالتعاطي مع الأعراض وليس الأسباب!
لا خلاف بين المراقبين والمتخصصين على أن الشرق الأوسط تحول إلى مصدر دائم لأزمات العالم، ابتداء من الإرهاب وصولاً إلى اللجوء والفقر والمرض، وإنهاء هذه الأزمات لن يبدأ سوى بالاشتباك مع مسبباتها الحقيقية، وإجبار النظام الإيراني على الانصياع لقواعد النظام والقانون الدولي واحترام سيادة دول الجوار وحق الشعوب في العيش بأمن وأمان، والكف عن استخدام الورقة الطائفية في نشر الفتن وخوض الحروب بالوكالة وتحويل معظم دول المنطقة إلى ساحات حرب مفتوحة!
المقاربات الدولية الحازمة في التعامل مع العربدة الإيرانية في الإقليم هي مفتاح تحقيق الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط، ومن دون ذلك فإن على العالم أن ينتظر طويلاً من أجل انتهاء نظام الملالي من تحقيق أحلامه التوسعية ثم الاستجابة لتوسلات العواصم الكبرى بالكف عن تجاوزاته وانتهاكاته للقوانين والمواثيق والأعراف الدولية.