تكاد الأخبار القادمة من سوريا تنحصر في الصراع القائم بالوكالة بين إيران وإسرائيل على أرض هذا البلد العربي، فبالأمس أعلن الجيش الإسرائيلي أنه شن ضربات ضد أهداف إيرانية ضد الأراضي السورية، موضحًا أن هذه الأهداف تابعة لفيلق القدس الإيراني داخل سوريا.
من الواضح من البيانات العسكرية الصادرة عن الجانبين السوري والإسرائيلي أن الضربات استهدفت مناطق في محيط العاصمة دمشق، ما يعني أن الميلشيات الإيرانية تتموضع في نقاط استراتيجية حيوية في الجغرافيا السورية.
التدخل الإسرائيلي العسكري في سوريا مرفوض بطبيعة الحال، كونه يمثل انتهاك لسيادة دولة عربية، ولكن الإشكالية لا تتوقف عند حد هذا التدخل بل يجب أن تطال الوجود العسكري الإيراني في سوريا، كونه يمثل الانتهاك الأكبر والأكثر خطورة وتأثيرًا.
تقول إسرائيل إنها ضربت "معظم البنى التحتية العسكرية لإيران"داخل سوريا، في أكبر هجوم لها منذ اندلاع الصراع، وأن هذه الهجمات جاءت ردًا على قصف الميليشيات الإيرانية مواقع للجيش الإسرائيلي في مرتفعات الجولات المحتلة.
ثمة أسئلة بديهية يمكن أن تُطرح في هذا السياق: لماذا تقوم الميليشيات الإيرانية بقصف مواقع عسكرية إسرائيلية انطلاقًا من الأراضي السورية على الرغم من ادعاءات إيران المتوالية بأنها تمتلك صواريخ متوسطة المدى قادرة على توجيه ضربات لأهداف في العمق الإسرائيلي من الأراضي الإيرانية؟ ولماذا تتجاوز الميلشيات الإيرانية التابعة لفيلق القدس مهمتها المزعومة في سوريا وتتجه إلى توجيه ضربات صاروخية تستدعي بالتبعية هجمات إسرائيلية في العمق السوري؟
نظام الملالي يدفع باتجاه إنهاك ما تبقى من قوة الجيش السوري في صد هجمات إسرائيل، فضلًا عن تشتيت انتباه القيادة السورية بدلًا من تركيزها خلال المرحلة الدقيقة الراهنة في استكمال ما تبقى من خطط تطهير الأراضي السورية من تنظيمات الإرهاب.
هناك تفسيرات عدة للموقف الإيراني أولها أن تكتيك الحرب بالوكالة يمثل امتدادًا لنهج نظام الملالي في التوسع الطائفي الإقليمي اعتمادًا على أذرع موالية له مذهبيًا كما هو الحال في اليمن، او من خلال وجود ميليشياته الطائفية في دول أخرى كما هو الحال في سوريا والعراق، وبالتالي فإن الميلشيات الإيرانية ذهبت إلى سوريا لهدف آخر غير الذي يتحدث عنه الإيرانيون ليل نهار، فقد ذهبت لتبقى والبقاء هنا لا يهدف لخوض صراع عسكري ضد إسرائيل من أقرب نقطة جغرافية لها، ولكن لإحياء حلم فارسي قديم لا علاقة له بشعارات الثورة الإيرانية التي لم تفلح في بناء دولة، ولجأت إلى "تثوير"برنامج عملها بشكل مزمن لضمان البقاء في الحكم لأطول فترة زمنية ممكنة.
يدرك نظام الملالي أن إسرائيل تستعد جديًا لخوض مواجهة عسكرية شاملة ضد إيران، وقد أكد ذلك رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو حينما قال إن "إسرائيل قد تخوض الحرب مع إيران عاجلا وليس آجلا لمنعها من مهاجمة إسرائيل"، ولذا تريد إيران دائمًا البقاء في نقاط تموضع قريبة من حدود إسرائيل، باعتبار أن هذه النقاط يمكن ان تمثل عامل ضغط استراتيجي قوي يردع إسرائيل عن توجيه ضربات ضد الأراضي الإيرانية خشية التعرض لرد فعل إيراني من داخل الأراضي السورية!
يدرك النظام الإيراني أيضًا أن حائط الصد الأساسي لمنع إسرائيل من استهداف إيران يتمثل في الوجود العسكري الإيراني في سوريا بالإضافة إلى الدور الحيوي للترسانة الصاروخية الإيرانية لدى "حزب الله"اللبناني، الذي يقوم بدور حيوي في حماية إيران من الاستهداف العسكري وليس ردع إسرائيل عن مهاجمة لبنان
اللبس القائم لدى الكثيرين أن وكلاء إيران يدافعون عن المصالح الاستراتيجية للدول التي ينتمون إليها، وهذا خطأ فادح، فالميلشيات التي تمولها إيران يتم توجيهها وتأتمر بأوامر إيرانية، فهكذا توجه "حزب الله"اللبناني صوب سوريا قبل أن تتوجه الميلشيات الإيرانية إلى هناك
الإشكالية التي تواجه الأمن والاستقرار الإقليمي الآن تتعلق بنفوذ إيران التوسعي، فلو أن المجتمع الدولي ضغط على نظام الملالي من أجل سحب ميلشياته من سوريا، فلا ضمانة حقيقية تؤكد خروج هذه الميلشيات التي تم جلبها على أسس طائفية ومذهبية من دول عدة، وليس لدى النظام الإيراني أي استعداد لاستضافة هذه الميلشيات حال عودتها كما أنه لا ينوي التفريط فيها بعد ما اكتسبت الخبرات العسكرية الكبيرة التي تزودت بها خلال سنوات الصراع في العراق وسوريا
إنها معضلة استراتيجية حقيقية لا يدرك الكثيرون أبعادها، فإيران لا تعتزم الخروج برغبتها من سوريا، وذهبت هناك لتبقى تنفيذًا لمخطط استراتيجي يستهدف حماية النظام ببناء حائط صد إمامي ونقل الصراعات إلى خارج أراضيها، ولأن إسرائيل تتبنى النهج الاستراتيجي ذاته، وتؤمن بفكرة نقل الصراع إلى خارج الأراضي الإسرائيلية وتطبيق نظرية "اليد الطولى"سواء بالضربات الجوية أو الصاروخية، فإنها تدرك خطر المخطط الإيراني على أمنها، وتعمل على اجهاضه قبل أن يستكمل حلقات تموضعه الدائم في سوريا.
الضحية في جميع الأحوال هي سوريا، الدولة والشعب، التي تعمل جاهدة على استعادة عافيتها وترميم ما خسرته خلال سنوات الصراع مع الإرهاب وتنظيماته ومموليه، ومن ثم فإن أحد مفاتيح الحل والأمن والاستقرار في سوريا يأتي عبر خروج الميلشيات الإيرانية بعد أن بات هدفها خوض حرب بالوكالة على الأراضي السورية.