هناك رؤى تحليلية عديدة تفسر قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب سحب القوات الأمريكية من سوريا، وتتفق جميع هذه الرؤى في أن القرار يصب في مصلحة أطراف ثلاث رئيسية هي إيران وروسيا وتركيا، بالإضافة إلى نظام الرئيس الأسد. وفي تفسير ذلك يمكن القطع بصحة هذه الرؤى إلى حد كبير؛ فتركيا، على سبيل المثال، أقرت على لسان وزير خارجيتها جاويش أوغلو أن العلاقات مع الولايات المتحدة قد تجاوزت الأيام العصيبة السابقة التي مرت بها، وحرص الوزير على حصر الاتهام بتدهور قيمة العملة التركية مؤخراً في الولايات المتحدة، ودعا إلى عدم ربط الإشكال بالولايات المتحدة فقط، ولكنه قال إن هناك بعض الموضوعات لا تزال تفتقر إلى حل منها مسألة تسليم فتح الله جولن، وقطع الدعم عن القوات الكردية في سوريا، واعتبر أن الجزئية الأخيرة سيتم تجاوزها في حال إتمام سحب القوات الأمريكية. واللافت ان أوغلو تحدث بشكل مغاير عن العلاقات التركية الأمريكية، وأشار إلى أن الرئيس ترامب "يُكن احتراما للرئيس أردوغان، ولديه صداقة عميقة معه، كما يُكن محبة واحترام لتركيا، ويظهر ذلك في اتصالاته الهاتفية ولقاءاته الثنائية"، وهذه في مجملها مؤشرات على تفاهم عميق تم التوصل إليه بين الطرفين حول مجمل الخلافات والملفات المشتركة.
أهداف الولايات المتحدة في سوريا لم تكن تنحصر في التصدي لتنظيم "داعش" فقط، وهذه حقيقة يدركها الجميع، فقد كانت هناك بموازاة ذلك رغبة أمريكية في التصدي للدور والنفوذ الإيراني في سوريا، ورغبة حثيثة في انسحاب الميلشيات الإيرانية من سوريا، حتى أن الأمر قد بلغ في فترة سابقة حد رهن سحب القوات الأمريكية من سوريا بانسحاب الميلشيات الإيرانية من هناك!
الحقيقة أن قرار سحب القوات من سوريا يبدو مغاير لتوجهات أركان الإدارة الأمريكية الحالية، فهم جميعاً، بعد قرار استقالة وزير الدفاع الأمريكي من منصبه، ومعروف أنه كان من دعاة عدم الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني، في حين أن قرار ترامب بشأن القوات يدعم موقف إيران ويشجعها على تعزيز وجودها ودورها في سوريا، بل ويشجعها على المضي في خططها التوسعية الإقليمية في الشرق الأوسط، فكيف يمكن فهم هذا القرار في ظل سياسات الإدارة الأمريكية حيال إيران؟
هل تخلت واشنطن عن هدفها الاستراتيجي الخاص بانسحاب القوات الإيرانية من سوريا؟ وهل تخلت أيضاً عن هدف المشاركة في رسم مستقبل سوريا بمعزل عن الرئيس الأسد؟
وضعت بعض الدوائر الاستراتيجية الغربية إيران في صدارة الرابحين من وراء قرار الرئيس ترامب، وهذه حقيقة لا مراء فيها لأن الوجود والدور الإيراني في سوريا لا يقتصر على هذا البلد، بل يمتد ليشمل الدور الإيراني في الكثير من دول المنطقة ومنها العراق ولبنان، فإيران لديها حلفاء وأذرع طائفية في هذين البلدين، وتمتلك مشروعاً توسعياً يتجاوز سوريا ليشمل المنطقة برمتها.
في محاولة فهم مكاسب إيران في قرار الرئيس ترامب يمكن رسم سيناريوهين مختلفين أولهما قائم على فكرة سحب القوات الأمريكية من سوريا وأفغانستان والعراق وكل مناطق الصراع الشرق أوسطية تمهيداً لبناء تحالف عسكري وتوجيه ضربة قوية ضد إيران، بمعنى أن سحب القوات لتفادي استهدافها في حال تحقق هذا السيناريو، وهذا أمر وارد بدرجة ما رغم عدم وجود شواهد دالة عليه حتى الآن، ولكن مواقف الرئيس ترامب حيال إيران توحي بإمكانية تحققه رغم انتفاء أرجحيته على الأقل في ضوء ما يلوح في المشهد الإقليمي والعالمي من شواهد حتى الآن.
والسيناريو الثاني قائم على حسابات الربح والخسارة الاستراتيجية للولايات المتحدة، بمعنى أن الرئيس ترامب قرر أن يتخلى عن دور بلاده في سوريا والتخلي عن هدف دفع إيران لمغادرة سوريا وهو هدف مهم للغاية بالنسبة للولايات المتحدة وإسرائيل حليفها الاستراتيجي الأساسي في المنطقة، مقابل الحصول على مكاسب استراتيجية مثل ترميم علاقات التحالف مع تركيا، وممارسة ضغط محسوب على دول حليفة أخرى في الشرق الأوسط، ومنها بعض دول مجلس التعاون، ترجمة لرؤيته الخاصة بضرورة تحمل الحلفاء نفقات الوجود العسكري الأمريكي في مناطق الأزمات، أو الدفع باتجاه تحمل هذه الدول مسؤولية ملء الفراغ الناجم عن سحب القوات الأمريكية من سوريا.
هناك رؤية أخرى ضعيفة، بتقديري، تقوم على أن الرئيس ترامب قد غامر بسحب القوات من أجل فتح المجال امام إسرائيل لتوجيه ضربات ضد الميلشيات الإيرانية في سوريا، وتفادي تعرض القوات الأمريكي لأي ردة فعل محتملة من جانب الميلشيات الإيرانية.
ربما يصعب الآن القطع بأي من السيناريوهات، ولكن المؤكد أن لإيران علاقة وثيقة بهذا القرار، وأن وزير الدفاع الأمريكي الذي سيخلف ماتيس سيكون بالقطع من الصقور، ويستكمل حلقة الكارهين لنظام الملالي في الإدارة الأمريكية،
في ضوء ما سبق، ما هو موقف دول مجلس التعاون حيال هذا التطور؟ وهل ستواصل الدول العربية مراقبة التطورات في سوريا عن بُعد؟ الواقع يشير إلى أن هناك توافق استراتيجي بين المملكة العربية السعودية من جهة والولايات المتحدة من جهة ثانية، حول ضرورة التصدي للنفوذ الإيراني في المنطقة، وبالتالي فإن من البديهي أن يكون هناك تشاور حول تأثير قرار سحب القوات الأمريكية من سوريا على مثل هذا الهدف الحيوي للطرفين معاً، أما بالنسبة لمجمل الدول العربية، وفي ضوء الحراك الإعلامي والسياسي والحلحلة الواضحة في الموقف الجماعي العربي حيال النظام السوري، فإن من الصعب على هذه الدول مجتمعة أن تتبنى موقفاً يقوم على رفض سحب القوات الأمريكية من سوريا، أضف إلى ذلك أن من الصعب على أي طرف خليجي أو عربي مطالبة الولايات المتحدة بالإبقاء على قواتها العاملة في سوريا، لأن رد إدارة الرئيس ترامب سيكون سريعاً بضرورة تحمل تكلفة هذا الوجود والمشاركة فيه إن امكن، لاسيما أن الرئيس الأمريكي لديه حساسية خاصة إزاء ما يصفه بتحمل الأعباء المالية للدور العسكري الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط عامة.