منذ مقتل الجنرال الإيراني قاسم سليماني في ضربة عسكرية أمريكية بالعراق، كنت واثقا من أن ملالي إيران لديهم حسابات بالغة التعقيد في الرد على قرار الرئيس ترمب بقتل سليماني الذي أخطأ في قرار محاصرة السفارة الأمريكية ببغداد وتوجيه ميليشيات الحشد الشعبي العراقية، لضرب إحدى القواعد الأمريكية بالعراق مما تسبب بمقتل متعاقد أمريكي.
خطأ سليماني ليس مبنيا على حسابات التحليل الاستراتيجي التقليدية، ولكنه نابع من تجاوز الخط الأحمر الأساسي الذي وضعه الرئيس ترمب في التعامل مع نظام الملالي، وهو «الدم الأمريكي»، حيث كرر الرئيس ترمب على بعض المسؤولين العسكريين كثيرا أن استهداف أحد الجنود الأمريكيين سيكون كفيلا بالرد العسكري الأمريكي المباشر على إيران.
صحيح أن الرئيس ترمب لا يرغب في خوض حرب، ولا يزال على رغبته وإرادته التي لا يخفيها ولا يتملص منها، بل يؤكدها ويصر عليها بشكل لا غموض فيه، ولكنه أراد هذه المرة أن يضرب أكثر من عصفور بحجر واحد؛ فقرار التخلص من سليماني لم يكن وليد لحظة عابرة كما يصور بعض المحللين، بدليل أن الرئيس ترمب لم يسقط في فخ الرد العسكري المتسرع حين أسقطت إيران طائرة أمريكية من دون طيار من طراز «MQ-4C» فوق مضيق هرمز في يناير 2019، في حدث لم يكن عاديا بالمرة وفق الحسابات العسكرية الاستراتيجية، باعتبار أنه كان يمثل تحديا عسكريا مباشرا للولايات المتحدة، فضلا عن أن الطائرة تعتبر هي الأكثر تقدما في التقدم التكنولوجي الأمريكي، حيث تصل سرعتها إلى 331 عقدة (613 كلم/ الساعة)، ويبلغ سعرها نحو 220 مليون دولار وتحمل أجهزة تجسس عالية الدقة، ويمكنها التحليق على ارتفاعات تصل إلى 50 ألف قدم (2ر15 كلم) كما يمكن للطائرة التحليق دون العودة إلى قواعدها على مدى 24 ساعة متواصلة، وتقوم بتزويد القواعد الأرضية بالمعلومات الاستخباراتية التي ترصدها خلال استطلاع المواقع المعادية، مما يجعل منها أيقونة للصناعات العسكرية الأمريكية ورمزا مهما للتفوق التكنولوجي ووقوعها بيد أعداء الولايات المتحدة قد يكون له عواقب سيئة، ولا سيما بالنسبة لما تحمله من تكنولوجيا متطورة.
لم يرد الرئيس ترمب وقتذاك على تصرف ملالي إيران الذي قام بتنفيذه الحرس الثوري، وبطبيعة الحال نشرت عشرات بل مئات المقالات والتحليلات حول انحسار هيبة الولايات المتحدة وتراجعها واندحارها، وفشلها في الصمود أمام التحدي الإيراني، ولكن الجميع أغفل الخطوط الحمر للرئيس ترمب، الذي قرر منذ توليه الرئاسة أن مقتل أحد الجنود الأمريكيين هو السبب الذي سيدفعه لخوض صراع عسكري مباشر ضد أعداء الولايات المتحدة، والمعنى هنا أن الولايات المتحدة وهي القوة العظمى الأولى عالميا، لا تتحرك وفق حسابات استراتيجية ضيقة أو وقتية أو متسرعة، بل لديها خطوط حمر بعضها معلن وبعضها الآخر غير معلن بالتأكيد، ويبدو أنها قررت حينها أن حسابات الربح والخسارة الاستراتيجية تشير إلى التريث في الرد على إيران وإرجاء أي عمل عسكري.
المبرر الأقوى الذي تنتظره الإدارة الأمريكية ربما جاء من خلال ما أعقب إسقاط الطائرة المسيرة، فالجنرال سليماني لم يتجاوز الخط الأحمر فقط في التوجيه بشن غارات تسببت في قتل أحد المتعاقدين الأمريكيين شمال العراق، بل أخطأ كذلك في محاصرة السفارة الأمريكية ببغداد، حيث تلامس فكرة محاصرة السفارة التي تعد الأكبر والأكثر تحصينا في العالم هاجسا تتجنب الإدارات الأمريكية المتعاقبة عدم تكراره، لما كان له من آثار فادحة على الولايات المتحدة وقتذاك، وهو أزمة الرهائن الأمريكيين في إيران عام 1979، وهي الحادثة العاصفة التي استمرت 444 يوما، وكانت وستبقى علامة فارقة في تاريخ العلاقات الإيرانية ـ الأمريكية.
حصار السفارة الأمريكية في طهران الذي وصفه الخميني بأنه «ثورة أكبر من الثورة الأولى (الثورة الإيرانية التي أطاحت بنظام الشاه)» تسبب في خسارة الرئيس الأسبق جيمي كارتر في الانتخابات الرئاسية، وأثار مخاوف أمريكية حقيقية من تكرار هذه الأزمة في العراق، في توقيت بالغ السوء بالنسبة للرئيس ترمب الذي يواجه أزمة داخلية تتعلق بإجراءات التحقيق التي يجريها الكونجرس حول اتهامات بشأن سوء استغلال سلطته السياسية لتحقيق مصالح ذاتية ومحاولة تعطيل عمل الكونجرس، وبالتالي كان سيناريو محاصرة السفارة الأمريكية في بغداد في حال تحوله إلى أزمة رهائن جديدة، سيضع الرئيس ترمب في وضع داخلي حرج للغاية، ويفتح عليه باب الضغوط لتقديم استقالته في عام الانتخابات الرئاسية!
غرور القوة هو السبب الرئيس المباشر في تكرار أخطاء ملالي إيران ووقوعهم في فخ الصدام المباشر مع الولايات المتحدة، رغم إدراكهم الراسخ بفوارق التوازن العسكري والاستراتيجي.