بعد أن انقشع الغبار كثيراً في التوتر الايراني الأمريكي إثر مقتل الجنرال قاسم سليماني في ضربة عسكرية أمريكية بالعراق، ربما يبدو من المهم إجراء جردة حسابات سريعة لحسابات الربح والخسارة الخاصة بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب في إدارة هذه الأزمة.
في البداية يجب التأكيد على أن دوافع قرار الرئيس ترامب بقتل الجنرال سليماني ليست كلها نابعة من التطور المتسارع في التوتر الايراني الأمريكي خلال الأسابيع الفائتة، فهناك بالتأكيد عوامل داخلية أمريكية قد أثرت في اتخاذ القرار ودفعت باتجاه مضي الرئيس ترامب في الاقدام على خطوة حاسمة باتجاه نظام الملالي الايراني، وفي مقدمة ذلك بالطبع يأتي موضوع التحقيقات التي يجريها الكونجرس ورغبة البيت الأبيض في حشد الرأي العام الأمريكي خلف قضية أو حدث أكبر من تخطيط المنافسين الديمقراطيين الأمريكيين، الذين أرادواً "حبس" الرئيس ترامب في "قمقم" التحقيقات خلال عام الانتخابات الرئاسية بحيث ينتهي الأمر إلى أحد سيناريوهين: عزله أو استقالته، وكلاهما مستبعد تماماً، أو تشويهه والاساءة إلى سمعته السياسية ومدى قدرته على إدارة البلاد، وهو السيناريو الأكثر ترجيحاً وكان الأقرب للحدوث بدرجة يصعب تحديد مدى فاعليتها، ولذا فقد تعامل معه الرئيس ترامب فعلياً وأراد القضاء عليه تماماً عبر مواجهته بخطة بديلة تفضي إلى عزل آثاره وتحييدها.
وفيما يتعلق بحسابات الربح والخسارة من إدارة الرئيس ترامب لموضوع قتل الجنرال سليماني، يمكن القول أن الحسابات تصب في مصلحة الرئيس الأمريكي تماماً، وفي ذلك يمكن الاشارة إلى نقاط عدة أولها أن الادارة الأمريكية قد نجحت تماماً في تسويق القرار داخلياً، وهذا هو الأهم في عام الانتخابات الرئاسية، حيث نجح ترامب في تحقيق أكثر من هدف واحد من خلال قرار قتل الجنرال سليماني أهمها الهرب من نتائج استطلاعات الرأي العديدة التي عكست تراجع شعبيته بسبب التحقيقات التي يجريها الكونجرس، وافشال كل الرهانات التقليدية القائمة على أن الرئيس الأمريكي في عام الانتخابات غير قادر على اتخاذ قرار بشأن عمل عسكري ضد مصدر تهديد كبير للمصالح الأمريكية كما في الحالة الايرانية، التي بات راسخاً لدى الكثيرين أن الرئيس ترامب لم يكن راغباً في خوض حرب ضدها منذ بداية توليه منصبه، وأنه يراهن بشكل أساسي على العقوبات الاقتصادية الصارمة كآلية لتركيع نظام الملالي وإجباره على الجلوس للتفاوض.
كسر الرئيس ترامب بقراره قتل الجنرال سليماني مسلمّات كثيرة ارتبطت بأدائه السياسي منذ دخوله البيت الأبيض، وهو تحول تكتيكي وليس استراتيجي، بمعنى أن الرئيس ترامب لم يفقد إيمانه وثقته بفاعلية العقوبات الموقعة على النظام الايراني، بل أراد فقط المناورة العسكرية من أجل التخلص من صورة نمطية معينة أراد منافسوه السياسيين الصاقها بها، ومن ثم الظهور بمظهر القائد السياسي القادر على اتخاذ قرار عسكري حاسم في حال تطلب الأمر ذلك، بكل مايحمله ذلك أيضاً من رسائل مباشرة موجهة لخصوم الولايات المتحدة الاستراتيجيين كإيران وكوريا الشمالية والصين وغيرهم، فضلاً عمنا يعنيه ذلك بطبيعة الحال بالنسبة لصورته في عيون مؤيديه وأنصاره وما يمثله من إرباك شديد لخطط منافسيه الديمقراطيين في الانتخابات الرئاسية، الذي انتقلوا ـ بفعل قرار قتل سليماني ـ من مربع الهجوم الشرس على ترامب إلى الدفاع عن فرصهم في المنافسة بتشويه القرار والسعي تفنيد دوافع القرار وآثاره لكسب تعاطف الرأي العام الأمريكي، وهي محاولة تظهر استطلاعات الرأي أنها لن تكون كافية مطلقاً لتعزيز مواقعهم التنافسية.
تحقق للرئيس ترامب أيضاً نقطة إضافية قوية من خلال الرد الايراني العسكري المحسوب بدقة، والذي بدا للمتخصصين الاستراتيجيين أنه بمنزلة رسالة واضحة بعدم رغبة ملالي إيران في التصعيد العسكري، وأن مصير النظام أهم لديه من فكرة "الانتقام" والرد عللاى مقتل الجنرال قاسم سليماني، وأن الملالي استوعبوا جيداً عقلية الرئيس ترامب التي تميل للمغامرة في حال تعلق الأمر بمستقبله السياسي، بمعنى أنه تهديداته الخاصة بتوجيه ضربة أقوى وأقسى ستجد طريقها إلى الواقع في حال تجاوز الرد الايراني الحدود المتوقعة له أمريكياً ونال من هيبة الولايات المتحدة وأثر بشكل ما في موقف الرئيس ترامب ضمن الحسابات السياسية الداخلية.
ربح الرئيس ترامب كثيراً إذاً من محدودية الرد العسكري الايراني، الذي جاء بمنزلة "خبر جيد" للبيت الأبيض، حتى أن الرئيس ترامب قد أجل القاء بيان رئاسي لليوم التالي تعليقاً على الحدث عقب تلقيه لتقرير فوري حول الهجوم الصاروخي الايراني على قاعدتين عسكريتين أمريكيتين في العراق رداً على مقتل سليماني، حيث بدا أن التقارير الفوية قد نقلت إليه صورة مطمئنة عما حدث، ما دفعه للتعليق قائلاً "كل شىء على مايرام".
ومن ثم يتوقع أن يحصد الرئيس ترامب ثمار إدارته لهذه الأزمة من خلال نتائج استطلاعات الرأي والدعم الشعبي المتزايد نتيجة موقفه الحازم في مواجهة التهديد الايراني بمحاصرة السفارة الأمريكية في بغداد، حيث أفلت الرئيس ترامب من فخ إيراني استهدف وضعه في صورة الرئيس الضعيف واستغلال هذه الصورة في هزيمته انتخابياً، ولكن قرار الرئيس ترامب المفاجىء بقتل الجنرال سليماني أربك حسابات الجميع، ووضعه في خانة "الرئيس القوى" ليستفيد من الدعم الشعبي التلقائي الذي تكرر مع رؤساء أمريكيين سابقين، كما حدث مع جورج بوش الابن من خلال إدارة أزمة اعتداءات 11 سبتمبر 2001، وقراره وقتذاك بقصف تنظيم "القاعدة" في أفغانستان، ورغم أن مثل هذه الأحداث توّلد ارتفاعات قياسية مرحلية في استطلاعات الرأي ولكنها بالتاكيد تنتج آثاراً يمكن توظيفها للحفاظ على الدعم الشعبي للرئيس من خلال الاستغلال الاعلامي والسياسي المنهج لتلك الآثار، والعمل على الحفاظ على مستويات الدعم الشعبي لمصلحة الرئيس خلال الأشهر المقبلة الحاسمة في الفوز بولاية رئاسية ثانية.