تقول الشواهد الظاهرية أن العلاقات الإيرانية ـ الأمريكية تمر بمرحلة هدوء أو بيات شتوي في ظل انشغال إدارة الرئيس ترامب بتوابع موضوع التحقيق مع الرئيس في الاتهامات التي وجهها إليه الديمقراطيين في مجلس النواب بشأن استغلال منصبه ومحاولة عرقلة عمل الكونجرس، ولكن هناك مؤشرات تشير إلى أن هناك إشارات متبادلة توحي بحرص الطرفين على إبقاء حد أدنى من القدرة على الانخراط في حوار مباشر حول القضايا الخلافية بين الجانبين.
أخر هذه الإشارات جاء من تبادل السجناء بين إيران والولايات المتحدة، حيث أعلن نظام الملالي انفتاحه على تبادل المزيد من السجناء رغم تأكيده قبل ذلك على أن هذا التبادل لم يأت نتيجة مفاوضات مباشرة مع الولايات المتحدة
على الجانب الآخر، قدم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الشكر إلى إيران لقيامها بما وصفه بـ "مفاوضات منصفة جداً"، لتبادل السجناء، الذي شمل مسعود سليماني العالم الإيراني الموقوف في الولايات المتحدة منذ عام 2018 زشيزي وانغ الأمريكي الصيني الأصل، الذي كان مسجوناً لدى إيران منذ عام 2016.
وبينما يحرص نظام الملالي على نفي التفاوض مع الجانب الأمريكي حول صفقة تبادل السجناء، حيث قال المتحدث باسم الحكومة علي ربيعي "لقد كانت هذه مجرد عملية تبادل … ونحن مستعدون للتحرك بشأن عمليات التبادل، ولكن لم تكن هناك مفاوضات".
وبعد عودة العالم الإيراني إثر الافراج عنه في الولايات المتحدة، كتب وزير الخارجية جواد ظريف "تغريدة" على حسابه في موقع "تويتر" قال فيها "بعد أن استعدنا الرهينة هذا الأسبوع، مستعدون لتبادل شامل للأسرى. الكرة في ملعب الولايات المتحدة".
وبحسب الرواية الإيرانية، فإن عملية التبادل الأخيرة قد جاءت رغم رفض الولايات المتحدة عرضاً قدمه النظام الإيراني العام الماضي لتبادل السجناء، وأن طهران قد تلقت قبل أشهر رسالة من"مسؤول أميركي سابق" قال فيها إن الأميركيين على استعداد للتبادل.
المؤكد أن مسألة التبادل هذه لا علاقة لها برؤية إدارة الرئيس ترامب للتهديدات الإيرانية، ولا قناعته بضرورة الضغط على النظام الإيراني كي ينصاع لدعوات الحوار وينخرط في مفاوضات مباشرة مع الولايات المتحدة، ولكن المؤكد أيضاً أن لهذا التبادل علاقة وثيقة باستبعاد إدارة الرئيس ترامب خوض صراع عسكري ضد إيران، والأمر هنا لا يرتبط فقط بانشغال الرئيس ترامب في التحقيقات التي يجريها الكونجرس، ولكن أيضاً لأنه قد بدأ بالفعل عامه الرئاسي الأخير، والذي يصعب فيه الاقدام على قرار حيوي للغاية مثل قرار شن حرب ضد إيران، لاسيما في ظل الخلاف الحاد القائم مع مجلس النواب الذي يسيطر عليه الديمقراطيون.
ربما ترى إدارة الرئيس ترامب في خطوات كتبادل الأسرى فرصة لاستكشاف كيفية التعامل مع نظام الملالي، والتعرف إلى أنماط التفاوض معهم، ومستويات التشدد والمرونة في تعاملهم، وهنا تنطوي إشادة الرئيس ترامب ب"المفاوضات المنصفة جداً" التي خاضها الوفد الأمريكي مع سويسرا مع الإيرانيين سواء بشكل مباشر أو عبر وسطاء سويسريين، على أهمية كبيرة لأن مثل هذه الإجراءات ربما تسهم في بلورة وجهة نظر الرئيس ترامب حيال مسألة التفاوض مع إيران بشكل أكثر وضوحاً، بمعنى أنه قد يتحمس لخوض جولات تفاوضية جديدة مع الملالي سواء حول السجناء أو حول قضايا استراتيجية وملفات خلافية، لاسيما أن "سيكولوجية" الرئيس ترامب تميل كثيراً لقبول التحديات المطروحة على طاولات التفاوض، بمعنى أنه يحب الانخراط في أي مفاوضات قد تنتهي بصفقات سياسية، بغض النظر عن محتوى التفاوض أو الموضوع، فهو مغرم بالأساس بمسألة الانتصار عن طريق التفاوض، واثبات صحة الفكرة التي يحاول ترسيخها بشأن براعته في عقد الصفقات وانتزاع التنازل من الخصوم عبر المفاوضات.
على الجانب الآخر، يمكن التكهن بأن نظام الملالي، الذي قرأ نهج الرئيس ترامب جيداً، يحاول تحقيق أهدافه الاستراتيجية عبر كسب الوقت لجين انتهاء الولاية الرئاسية الأولى للرئيس ترامب، وبما قد يفضي إلى فوز رئيس ديمقراطي يعيد تقييم الوضع مع إيران، مع ماينطوي عليه ذلك من احتمالات العودة للاتفاق النووي المبرم عام 2015، أو حتى في حال فوز الرئيس ترامب بولاية رئاسية ثانية، سيكون لديه من الأسباب والقوة ما يجعله قادر على عقد صفقة جديدة مع نظام الملالي بمعزل عن ضغوط إسرائيل واللوبي اليهودي الموالي لها في الولايات المتحدة؛ وفي الحالتين يبدو الانتظار في مصلحة النظام الإيراني الذي يزعم أنه تكيف مع العقوبات الأمريكية الصارمة المفروضة عليه، والذي قد يرى في هذه العقوبات سيناريو أقل سوءاً من التعرض لضربة عسكرية أمريكية.