تشير كافة الشواهد والمؤشرات إلى تفاقم مستوى الأزمات الداخلية والخارجية التي يعانيها نظام الملالي الايراني منذ انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، ولكن الفترة الأخيرة تعكس ارتفاعاً غير مسبوق في منحنى الأزمات التي تواجه النظام وتحاصره من كل الاتجاهات. العلامة الأبرز على حجم احساس الملالي بالخطر جاءت من خلال اعتلاء المرشد الأعلى للثورة الايرانية علي خامنئي منبر الجمعة مجدداً بعد انقطاع استمر ثماني سنوات، ليؤم المصلين ويحاول حشد وتجييش المؤيدين للنظام حوله في هذه المرحلة الخطيرة التي يواجهها.
كانت آخر خطبة لخامنئي في عام 2012، عندما رد على بيان الرئيس الأمريكي باراك أوباما، الذي قال إن جميع الخيارات مطروحة بشأن البرنامج النووي الإيراني، وكان ذلك الظهور بمنزلة رسالة واضحة لتعزيز موقف المفاوض الايراني في بداية الجولات التفاوضية المارثوانية التي توجت بتوقيع الاتفاق النووي مع مجموعة "5+1" في عام 2015، ولكن اليوم المشهد يبدو مختلفاً، والظهور لم يستهدف تعزيز الموقف السياسي للنظام بقدر ما جاء للملمة شتاته وتعزيز تماسكه خشية انهياره في مواجهة الضغوط الخارجية والاحتجاجات الشعبية.
ظهور خامنئي تحديداً على المنبر إذن له دلالات عدة بالنظر إلى حالته الصحية التي لم تسمح له في السنوات الأخيرة بإمامة المصلين في صلاة الجمعة، ومن ثم فإن عودته رغم المعاناة الصحية الكبيرة تعكس حجم الخطر والتحديات التي تواجه النظام، حيث يدرك خامنئي أنه الشخصية الوحيدة القادرة على حشد مختلف أجنحة النظام في الوقت الراهن. ومن ثم فإن الخطبة التي وصفت بالمصيرية في الإعلام الايراني، تنطوي على رمزية تستحق التحليل، لاسيما أن خامنئي قد ألقاها وإلى جانبه بندقية قناصة في إشارة لا تخلو من دلالات على استنفار النظام بأقصى قواه في محاولة مستميتة للهروب من مصير بات يقترب منه رويداً رويداً.
لم يعد نظام الملالي يواجه الانهيار الاقتصادي الناجم عن تشديد العقوبات الأمريكية في العامين الأخيرين فقط، بل بات يواجه أزمات موازية ربما تكون عواقبها أشد وأخطر من الانهيار الاقتصادي الذي يطال الشعب الايراني بالأساس، حيث بات النظام في مواجهة كارثة اسقاط طائرة الركاب الأوكرانية بخطأ عسكري فادح من الحرس الثوري الايراني، ما تسبب في اندلاع تظاهرات شعبية في المدن الايرانية احتجاجاً على الأزمات المتوالية الناجمة عن الميلشيات المدعومة من الملالي، وقبلها كانت ولا تزال هناك أزمة مقتل الجنرال قاسم سليماني، ثم الرد العسكري الايراني المحسوب بدقة عليها، والخوف من رد أمريكي مضاد على الهجوم الصاروخي الايراني على قاعدتين عسكريتين أمريكيتين في العراق.
لم يخرج حديث خامنئي في خطبة الجمعة عن التوقعات التي يمكن أن يرسمها المتخصصون والباحثون في الشأن الايراني، فقد حرص على نفى دور نظامه في اثارة الفتن الاقليمية، ووصف فيها الحقائق المؤكدة لكل ذي بصيرة حول دور إيران في إشعال الحروب بالوكالة في الاقليم بأنها "فرية كبرى"، من دون أن يطرح سبباً منطقياً لانفاق مليارات الدولارات المنهوبة من أموال الشعب الايراني لتمويل ميلشيات طائفية في دول عربية عدة، وماهو الدور الذي تقوم به هذه الميلشيات على وجه التحديد في اليمن والعراق وسوريا ولبنان؟!
حرص خامنئي أيضاً على التهويل من آثار الهجوم الصاروخي المحسوب الذي شنه الحرس الثوري على قاعدتين عسكريتين أمريكيتين في العراق، وأشار لـ "صفعة حرس الثورة لقاعدة عين الأسد الأمريكية في العراق هي ضربة لهيبة أمريكا واستكبارها، وقد تلقوا الصفعات من اليد القوية للمقاومة"، وهو هنا لا يخرج عن سياق الخطاب الدعائي التعبوي الموجه خصيصاً لأتباع ولي الفقيه ونظامه في الداخل والخارج، بغض النظر عن أي حسابات موضوعية لحجم ومستوى الرد الايراني الذي جاء كاشفاً لزيف ادعاءات النظام وحرصه على تفادي المواجهة العسكرية مع الولايات المتحدة، وإدراكه جيداً للفوارق الهائلة في توازنات القوى الاستراتيجية، ومن ثم لجوئه إلى رد عسكري محدود للغاية لحفظ ماء الوجه، والاكتفاء بالرهان على آلة الدعاية الموالية للملالي لتضخيم الرد ووصفه بما ليس فيه!
ورغم أن مفردات قاموس الشتائم الموجهة للأنظمة الغربية والولايات المتحدة على وجه الخصوص تحضر في مثل هذه المواقف بقوة، وتعتبر من كلاسيكيات أداء المرشد الايراني وقادة الملالي فإن الملاحظ بعيداً عن الاوصاف وغيرها، أن خامنئي لم يتطرق البتة إلى أي تحرك إيراني عسكري آخر في تحدي الولايات المتحدة، بل اقتصر كلامه على وصف "جريمة أمريكا في اغتيال القائدين قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس جرت بصورة جبانة ولئيمة" ومحاول رفع معنويات مؤيدي النظام واقناعهم بجدارة الرد على مقتله.
ربما لا ينطوي ظهور خامنئي في خطبة الجمعة هذه المرة على أكثر من محاولة لرفع المعنويات وحشد النظام واعادة الاصطفاف في مواجهة أخطر تحد يواجه النظام منذ عام 1979، فالخطبة لم تتضمن أي موقف سياسي جديد للنظام الايراني، بل جاءت باعتقادي لاستشعاره خطورة التحديات غير المسبوقة التي تواجه نظامه وخوفه من افلات زمام الأمور في هذه اللحظة التاريخية الفارقة وتهاوي النظام تحت وطأة الضغوط الداخلية والخارجية، أو الانزلاق إلى اتخاذ قرارات غير واقعية قد تفتح الباب أمام بداية نهاية النظام.