يخطئ من يظن أن الانتخابات التشريعية التي جرت مؤخرا في إيران قد أسفرت عن خارطة سياسية جديدة في البلاد، وأن سيطرة المتشددين على مجلس الشورى الإيراني تمثل تحولا في المشهد السياسي الإيراني، فالمؤكد أن التاريخ الإيراني المعاصر منذ ثورة الخميني عام 1979 يراوح بين مد وجذب للتيارات السياسية الموالية للمرشد، الذي يقرب بعضهم ويبعد آخرين وفقا لتصورات مصالحية معينة للملالي، والأمر هنا لا علاقة له بالصراع السياسي التنافسي المتعارف عليه تقليديا في الديمقراطيات الغربية، بل هو مشهد مسرحي بامتياز يبدو الاتباع، وليس الساسة، فيه أقرب إلى «عرائس الماريونت» (دمى) يحركها المرشد ورجاله المقربون.
الانتخابات الأخيرة التي شهدت أقل نسبة مشاركة تصويتية في تاريخ جمهورية الملالي، تعكس التحول الحاصل في المزاج الشعبي الإيراني، وفقدان الملالي لقدرتهم على حشد الناخبين للتصويت عبر المناورات السياسية وافتعال صراع وهمي بين من يزعمون أنهم إصلاحيون ومحافظون، وهي اللعبة الدعائية التي نجحت في خداع ملايين الإيرانيين طيلة العقود والسنوات الماضية، حيث انكشفت اللعبة وكانت اللطمة السياسية قوية في هذا الانتخابات التي يحاول الملالي تبرير ضعف الإقبال عليها بسوء الأحوال الجوية، وغير ذلك من أسباب واهية.
وبعيدا عن لعبة نهاية الإصلاحيين وعودتهم التي استغرقت المراقبين والمحللين طويلا، فإن الواقع يقول إن النظام الإيراني في هذه المرحلة يحتاج إلى إعادة اصطفاف في مواجهة أزمة وجود تهدد مصيره ومستقبله السياسي، ومن ثم يمكن فهم أسباب رفض كل من تشكك فيهم رجال مجلس صيانة الدستور عند الترشح، حيث رفضوا أكثر من 16 ألف مرشح كانوا ينوون خوض الانتخابات الأخيرة، لمصلحة الأكثر والأقرب ولاء للمرشد ونظام ولي الفقيه، فالمسألة ليست اعتدالا وتشددا، بل تخضع لمعيار أساسي يتعلق بمعدلات الولاء الأيديولوجي والسياسي والشخصي لرأس النظام.
يدرك الملالي أن الوقت ليس في مصلحتهم، وأن مسألة الاعتدال والتشدد باتت رفاهية سياسية ليست في صالح النظام بتاتا، فكان المطلوب إعادة انتشار سياسي وهندسة المشهد مجددا، بحيث لا يضم سوى نخب الموالين بشكل مطلق وطاعة عمياء لأوامر وتعليمات خامنئي، بمعنى أن يتحول مجلس الشورى الإيراني (البرلمان) إلى حرس ثوري سياسي يدافع عن قرارات المرشد في المحافل البرلمانية الإقليمية والدولية، وأن يكون البرلمانيون على أتم استعداد لخوض معارك النظام في السياسة كما يخوضها الحرس الثوري في كل البقاع الجغرافية التي ينتشر فيها عسكريا داخل إيران وخارجها!
الحقيقة أن أي انتخابات إيرانية ليست مرآة لمدى شعبية النظام الحاكم، الذي يحشد الناخبين بوسائل وآليات بل وعقوبات شتى، وبالتالي فالأمر لا يتعلق بمشهد انتخابات حرة كما يعتقد بعض الواهمين في عالمنا العربي، بل هي عملية تجميلية موسمية يجريها النظام لانتزاع شرعية دولية غير مستحقة، ويمارس من خلالها الخداع الذي يدرك حقيقته أي باحث أو متخصص أو مهتم بالشأن الإيراني، فالانتخابات السابقة كانت تشهد ارتفاعا لمعدلات الإقبال بفعل الدعاية الزائفة التي كانت تمنح الناخب الإيراني بريق أمل خادع في حدوث التغيير من خلال شعارات من يصفون أنفسهم بالإصلاحيين، ثم يكتشف الناخبون أنهم الوجه الآخر للنظام، وأن الأمل في التغيير لن يحدث بتغيير الوجوه داخل النظام، بل بتغيير السياسات، وتلك مسألة بات الجميع على يقين بأنها كسراب يحسبه الظمآن ماء.
نتيجة الانتخابات التشريعية الإيرانية الأخيرة جاءت وفق تخطيط الملالي، برلمانا متشددا يشاطر رؤوس النظام وقادة الحرس الثوري خطابهم السياسي، ويقوم بما يسند إليه سياسيا في إطار لعبة توزيع أدوار يجيدها الملالي بامتياز، لأنهم يدركون أن القادم أسوأ بالنسبة لنظامهم، فالرئيس ترمب مصمم على استكمال الضغوط الهادفة إلى إعادة الملالي لرشدهم ورضوخهم للشروط الدولية بشأن برنامجهم النووي والصاروخي، والنظام نفسه ينتظر تقديم بعض التنازلات الأمريكية التي تحفظ ماء الوجه كي يعود أدراجه إلى حظيرة الاتفاق النووي، ولكن هذا الأمر قد يطول في ظل المتغيرات الراهنة، وفي ظل الاحتمالات المتزايدة بفوز الرئيس ترمب بولاية رئاسية ثانية، ستكون حتما أقسى وأشد وقعا على نظام الملالي.