على خلاف ما اعتادت عليه الأوساط السياسية والإعلامية، فقد جرت مؤخرا الانتخابات التشريعية الإيرانية، التي كانت تخطف الأضواء إقليميا ودوليا، من دون أدنى اهتمام! مما يثير بدوره تساؤلات حول أسباب ذلك وتفسيراته.
لا شك أن المشهد الانتخابي الإيراني لم يتغير كثيرا، فقد مارست السلطات دورها في فرز و»فلترة» المرشحين ورفض الآلاف من طلبات الترشح لتيار لمصلحة تيار آخر أكثر ميلا لدعم نظام الملالي، وهو دور تقليدي متعرف عليه يجري بدقة تنفيذا لتعليمات المرشد الأعلى خامنئي الذي يتربع على قمة هرم السلطة، ويوزع الأدوار على «اللاعبين» وفق متطلبات كل مرحلة وحسابات المصالح التي تقتضي أحيانا صعود تيار دون آخر وفق لعبة «عرائس» وتوزيع أدوار دقيق يحسبه كثيرون صراعا سياسيا حقيقيا.
شخصيا، لا أعترف بأن هناك خطا فارقا واضحا بين ما يعرف بالإصلاحيين والمحافظين في النظام الإيراني، ولا أقر بأن ما يحدث من تجاذب بين هذين الفريقين هو حالة من حالات التنافس والتجاذب السياسي مثلما يحدث في كل دول العالم، بل أرى أنهما جناحان لسلطة واحدة توظف كل منهما في تحقيق أهدافها وإطالة عمر النظام وتقوية قبضته على السلطة، وفق توقيتات وتوازنات وحسابات سياسية دقيقة للغاية، فكلا الفريقين أبناء مخلصون لنظام الولي الفقيه، ويدين بالطاعة والولاء للمرشد الأعلى وتعليماته، ولا يسمح بخروج أي منهما على قواعد اللعبة والخطوط المرسومة لها بدقة.
والكل يعرف مصير من جاهر بمعارضة سياسات المرشد ومخالفة تعليمات النظام حتى لو كان من أخلص وأقرب أبناء الثورة، ومصباح يزدي وغيره من المحددة إقامتهم في منازلهم ولا يسمح لهم سوى بالتنقل بين الغرف خير شهود على هذه الحالة الإيرانية الفريدة.
في ضوء ما سبق، فإن الانتخابات التشريعية الإيرانية الأخيرة لم تشهد إقبالا من الناخبين، الذين يدركون أنها لعبة لتجميل وجه النظام والحصول على شرعية مخادعة تعزز موقف قادته خارجيا، وهو ما يفسر دعوات خامنئي المتكرر للناخبين للتصويت فيما وصفه بـ «الجهاد العام»، و»الواجب الديني» والسعي لتحقيق «مصلحة البلاد»، وبالتالي فإن خارطة مجلس الشورى الإيراني المقبل واضحة، فالنظام بأكمله يميل للتشدد ويحتاج إلى برلمان داعم لسياسات الصوت الواحد، وإنهاء لعبة توزيع الأدوار بين إصلاحيين ومحافظين، ومعتدلين ومتشددين، وغير ذلك من مسميات ثبت عدم صحتها، وغياب أي فواصل سياسية دقيقة بينها.
اللافت وسط فصول هذه المسرحية السياسية الهزلية أن مجلس صيانة الدستور، الذي يمثل سلطة المرشد في الرقابة على الإجراءات السابقة للانتخابات قد رفض طلبات نحو 90 عضوا من أعضاء مجلس الشورى الحالي لإعادة ترشحهم، لأسباب واعتبارات مختلفة، ما يفهم منه أن الظروف قد تغيرت وأن الداعي لوجود هؤلاء في البرلمان لم يعد قائما، وأن الساحة باتت تتطلب شخصيات ولاعبين آخرين تنفيذا لإملاءات المرشد، ومن ثم فإن المنافسة قد مضت بين شريحة معينة من الساسة الذين يتنافسون حول حدود الولاء والطاعة للمرشد وبقية الملالي.
هناك دور مطلوب بإلحاح من البرلمان الإيراني المقبل، وهو تقديم أقصى دعم للملالي في مواجهة الضغوط الأمريكية، التي تؤكد الشواهد أنها ستتواصل طيلة الأشهر الباقية من فترة رئاسة دونالد ترمب، والأرجح أنها لن تنتهي سوى برضوخ النظام الإيراني للشروط الأمريكية وتوقيع «الصفقة» التي سيضع شروطها البيت الأبيض.
والصراع السياسي في إيران الآن يتمحور حول التشدد في ظل غياب ورفض شعبي لسياسات النظام التي تسببت في عزلة دولية وإقليمية غير مسبوقة يدفع ثمنها غاليا الشعب الإيراني، الذي تهدر ثرواته وملياراته على الميليشيات والأذرع الطائفية الخارجية للنظام، ويعاني ضغوطا اقتصادية هائلة وأوضاع معيشية صعبة للغاية، ووجد ملايين الإيرانيين أنفسهم أدوات بيد الملالي الذين يقدمون لهم الوعود بالإصلاح وتحسين الأحوال منذ سنين طويلة، وبالتالي فإن مشهد الفتور واللامبالاة تجاه الانتخابات التشريعية الإيرانية يبدو طبيعيا في ظل إدراك الجميع، داخليا وخارجيا، أن النتائج لن تقدم ولن تؤخر في الواقع الصعب المرشح لمزيد من التدهور والانهيار.
في الانتخابات التشريعية الأخيرة، انتهت اللعبة وانكشف تماما ما غاب لفترة طويلة عن كثيرين ممن استغرقوا في متابعة أحوال إيران، وتوصيفه باعتباره صراعا بين التشدد والاعتدال!