لا شك أن استمرار تباين مواقف القوى الكبرى، ولاسيما تلك التي وقعت الاتفاق النووي مع ملالي إيران عام 2015، يوجه ضربة قوية للأمن والاستقرار في الشرق الاوسط بشكل عام ومنطقة الخليج العربي بشكل خاص؛ فمن المعروف أن الملالي يقتاتون على هذا الانقسام الذي يمثل بالنسبة لهم الأمل الوحيد في بقاء نظامهم على قيد الحياة، والزعم بتحقيق انتصارات وهمية في مواجهة الحصار الاقتصادي الأمريكي الصارم. ومن نتائج هذا الانقسام بل من كوارثه، ما حدث مؤخراً بشأن انتهاء القيود التسليحية التي كان يفرضها مجلس الأمن الدولي على إيران منذ عشر سنوات.
يقول الملالي أنه بات بامكانهم استيراد الأسلحة "من أي مصدر ومن دون أية قيود قانونية"، وكذلك تصدير الأسلحة التي يعرف الجميع وجهتها مسبقاً، وهي مناطق تمركز الميلشيات والتنظيمات والأذرع الطائفية الموالية للملالي، والتي لم تكن تحتاج إلى "شرعنة" لأنها جميعاً تتم بطرق ووسائل غير شرعية ويتم تهريبها سراً إلى تلك المناطق، ولكن الحديث عن "تصدير الأسلحة" يعني أن الملالي يمكن أن يتعاونوا مع أطراف أخرى اقليمية أو دولية لبيع الصواريخ وتكنولوجيا التسلح التي يمتلكونها، بما يوسع دائرة أو احتمالات انتشار التسلح الصاروخي وربما النووي في مراحل لاحقة.
يرى الملالي في انتهاء هذه القيود الأممية "انتصاراً دبلوماسياً" على الولايات المتحدة، واستوجب توجيه تهنئة رسمية من رؤوس النظام للشعب الايراني، في محاولة لرفع المعنويات المتداعية شعبياً!
ويعلم الكثيرون أن إدارة الرئيس ترامب قد تقدمت قبل أسابيع بطلب لتفعيل آلية "سناب باك" (العودة التلقائية للعقوبات) التي تتيح لأي من الدول الموقعة على الاتفاق النووي إعادة تفعيل العقوبات، بما في ذلك تمديد حظر الأسلحة الذي انتهى مؤخراً، في حال لم تمتثل طهران للاتفاق. إلا أن الطلب لم يلق دعماً من بقية أعضاء مجلس الأمن الدولي الذين اعتبروا أنه ليس من حق الولايات المتحدة إعادة تفعيل آلية في الاتفاق الذي انسحبت منه عام 2018 بصورة أحادية.
واقعياً، ليس هناك فرص كبيرة لحدوث اختراق نوعي لحظر الأسلحة المفروض على النظام الايراني، من الدول الغربية تحديداً، لأن من الصعب أن تورط أي دولة من حلفاء الولايات المتحدة نفسها في مبيعات أسلحة للملالي، لما قد ينجم عن ذلك من خلافات حادة مع الإدارة الأمريكية، ناهيك عن أن نظرة بقية الدول الغربية لنظام الملالي هي ذاتها النظرة الأمريكية، من حيث تحديد طبيعة ونوعية التهديد الذي يمثله هذا النظام، ولكن الخلافات القائمة بين الطرفين تبقى في التكتيكات المقترحة للتعاطي مع مثل هذه الأنظمة، وليس في الرؤية الاستراتيجية. أما بالنسبة للصين وروسيا فمن الصعب كذلك أن توافق الدولتان على بيع صفقات أسلحة "نوعية" للملالي، فالصين ـ على سبيل المثال ـ لم تخف نيتها بيع أسلحة لإيران بعد الثامن عشر من أكتوبر ولكنني اعتقد أنها لن تكون أسلحة مؤثرة في موازين القوى الاقليمية أو تعزز قدرة الملالي على تهديد الأمن والاستقرار بالمنطقة، لأن مثل هذه الخطوة لن تغضب الولايات المتحدة فقط، بل ستضفي المزيد من التعقيد والخلافات على هذه العلاقات المعقدة من الأساس، لاسيما بعد أن هدد وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو بأن "أي عملية بيع اسلحة لايران ستؤدي الى عقوبات"، بل ستغضب أيضاً حلفاء مهمين للدولتين في دول مجلس التعاون فضلاً عن إسرائيل؛ ولكن كل هذه الحسابات تخضع لمعايير ومراجعات وحسابات مصالح استراتيجية دقيقة وأرباح وخسائر مع إيران وغيرها، بما يحدد الكفة الراجحة عند اتخاذ القرار من جانب أي دولة من الدول الكبرى التي تحدثت عن فرص لتطوير التعاون العسكري مع إيران في المرحلة المقبلة.
الحقيقة أن رفع الحظر الأممي بعد مرور خمسة أعوام من توقيع الاتفاق النووي الذي أبرمته إيران عام 2015 مجموعة "5+1" (الولايات المتحدة، بريطانيا، فرنسا، روسيا، الصين، وألمانيا)، والذي وضع إطاره القانوني قرار مجلس الأمن رقم 2231، يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك ما يكتنف هذا الاتفاق من ثغرات وجوانب ضعف خطيرة، لأن السنوات الخمس التي نص عليها الاتفاق قد مضت وانتهت بالفعل، ولكن الخطر والتهديد الايراني باق ولم يتلاشى أو حتى يتراجع قليلاً، بل إن ماحدث بالفعل، كمحصلة لهذا الاتفاق السىء، أن الملالي قد حصلوا على التكنولوجيا اللازمة للحصول على اليوارنيوم المخصب اللازم لصناعة أسلحة نووية، وأن المسألة باتت رهن قرار سياسي من رأس النظام بدخول مرحلة تصنيع قنبلة نووية إن لم يكن قد تم ذلك سراً بالفعل، مع بقاء مستويات الخطر كما هي، سواء تمثلت في معدلات الأمان الضعيفة للمنشآت النووية الايرانية، أو في سرية البرنامج النووي الايراني الذي لا تستطيع وكالة الطاقة الذرية الاطلاع على أنشطته ومنشآته كافة، لوجود أغلبها في مواقع سرية يشرف عليها الحرص الثوري ولا يسمح بدخولها وخضوعها للتفتيش والرقابة النووية الدولية كما هو مفترض، أو في منح الملالي فرصة غير مسبوقة للتمدد استراتيجياً وتنفيذ مشروعات توسعية طائفية تقوض سيادة دول الجوار من خلال التدخل العسكري الايراني المباشر وغير المباشر في دول عربية عدة!
المعنى هنا أن انتهاء القيود التسليحية بهذا الشكل يكشف فعلياً ثغرات الاتفاق النووي، ويستحق من بقية الدول الموقعة عليه وقفة للدراسة والتأني بدلاً من نظرة التحدي والعناد التي تخيم على علاقات القوى الموقعة عليه، فالعالم لم يحصل من هذا الاتفاق على شىء تقريباً، بل إن كل ماحدث هو ترحيل للخطر وتأجيل للتهديد الايراني، وهو تأجيل يحقق للملالي أهدافهم ولا يتماشى مع استراتيجيات المجتمع الدولي الذي ينشد استدامة الأمن والاستقرار والسلام، وخصوصاً في المناطق ذات الحساسية الاستثنائية الفائقة للاقتصاد العالمي مثل منطقة الخليج العربي.