وسط انشغال العالم بمتابعة أنباء الجدل السياسي الدائر في الولايات المتحدة على خلفية رفض الرئيس دونالد ترامب الاعتراف بهزيمته في انتخابات الرئاسة التي اجريت مؤخراً، صدر تقرير خطير لوكالة الطاقة الذرية يشير إلى أن خطر ملالي إيران يتزايد، وأن هذا النظام المتهور يمتلك الآن أكثر من 12 ضعفاً من كمية اليورانيوم المخصب المسموح بها بموجب الاتفاق النووي الموقع عام 2015، بين ملالي إيران ومجموعة "5+1"، وقال تقرير الوكالة أن مخزون إيران من اليورانيوم المخصب وصل هذا الشهر إلى 9ر2442 كيلو جرام، كما قال التقرير إن تفسير النظام الايراني لوجود مواد نووية في موقع غير معلن "غير موثوق به". ةلم تقتصر انتهاكات نظام الملالي على كمية اليورانيوم المخصب المسموح بتخزينها بل امتدت لتشمل نسب التخصيب أيضاً، حيث أشار تقرير الوكالة إلى أن النظام يواصل تخصيب اليورانيون بدرجة نقاء تصل إلى 5ر4% ما يمثل انتهاكاً لسقف النسبة الواردة في الاتفاق النووي وهي 67ر3%. وتعليقاً على ذلك، قال مندوب إيران لدى الوكالة الدولية للطاقة الذرية في تغريدة على موقع "تويتر" أنه "يجب تجنب أي تعليقات متسرعة"، وأن الاتصالات جارية بهدف الانتهاء من حل هذه المسألة"!
الحقيقة بالنسبة لنا كمراقبين، أن محتوى هذا التقرير ليس مفاجئاً بالمرة، ولكن أهميته تكمن في توقيته، حيث تتجه الأنظار عالمياً إلى البيت الأبيض، الذي سيشهد تغييراً في العشرين من يناير المقبل، بتولي الرئيس المنتخب جو بايدن منصب الرئاسة خلفاً للرئيس الحالي دونالد ترامب، وحيث يتوقع الكثيرون أن يجد الرئيس الجديد طريقاً للعودة إلى هذا الاتفاق النووي الملىء بالثغرات.
الحقيقة أيضاً أن الموقف الامريكي من الاتفاق النووي الموقع مع ملالي إيران لا يجب أن يكون موضع مناكفة سياسية بين إدارتين، جمهوريين وديمقراطيين، فالمسألة تنطوي على خطر يفوق المناكفة والمكايدة السياسية، في ظل بروز العديد من الشواهد والبراهين والأدلة على فشل هذا الاتفاق في لجم الاندفاع الايراني نحو امتلاك قدرات عسكرية نووية، ويكفي شهادة هذا التقرير الصادر مؤخراً من الجهة الدولية المعنية بالكشف عن قدرات إيران النووية، والتي طالما انطلى عليها خداع نظام الملالي وبراعته في اخفاء مخزون اليورانيوم المخصب وأجهزة التخصيب في منشآت عسكرية سرية لا تخضع لتفتيش الوكالة الدولية.
لم يخف الملالي نيتهم خرق بنود الاتفاق النووي منذ منتصف عام 2017، للضغط على إدارة الرئيس ترامب لرفع العقوبات التي تفرضها على إيران، حيث هدد النظام في ذلك الوقت بأنه سيزيد تخصيب اليورانيوم بأكثر من الحد المسموح به في الاتفاق النووي، وهذه التهديات كانت من الأسباب التي عجلت بقرار الرئيس ترامب الانسحاب من هذا الاتفاق في عام 2018.
قد يجادل أحدهم ويزعم أن إنتاج الأسلحة النووية يتطلب رفع نسبة التخصيب إلى نسبة 90% وان ما تم رصده من جانب الةكالة هو ارتفاع طفيف في نسب التخصيب، وهذا صحيح رقمياً ولكنه ربما يشير علمياً إلى حقيقة مهمة وهي أن الملالي يحاولون تجاوز التحديات التقنية المفترضة وصولاً إلى تخصيب اليورانيوم بنسبة 20% وبعدها يصبح الطريق سهلاً للوصول إلى مستوى التخصيب اللازم للحصول على سلاح نووي، وشخصياً اُرجح أن الرفع بهذه النسبة البسيط ليس بسبب وجود عائق تقني ولكن الملالي يكتفون بذلك لامساك العصا من المنتصف خشية تعرضهم لضربة عسكرية استباقية، ويكتفون بإرسال إشارة على قدرتهم على بلوغ هدف التخصيب اللازم للحصول على "القنبلة"، لاسيما أن نظام الملالي كان قد بلغ بالفعل مستوى تخصيب بنسبة 20% عام 2010، أي أنه يمتلك التكنولوجيا وقادر على تجاوز أي عقبات فنية للوصول إلى هذه النسبة المفصلية، وهذا ما يعكسه تصريح الرئيس الايراني وقتذاك إن بلاده "إن معدل التخصيب سيكون بقدر ما نريده"، وهذه رسالة واضحة لها مدلول سياسي لا تخطئه عين مراقب.
قبل توقيع الاتفاق النووي كان بعض الخبراء يرون أن الأمر قد يستغرق نحو ثلاثة أشهر كي ينتج الملالي ما يكفي من اليورانيوم عالي التخصيب لصنع سلاح نووي، ولكنهم كانوا يرون أيضاً ان الأمر يتعلق أساساً بقرار سياسي من الملالي يحدد امكانية انتاج سلاح نووي، لأن الجانب التقني والزمني يرتبط بتكثيف عدد ونوعية أجهزة الطرد المركزي.
ما حدث أن الاتفاق النووي اشترط على الملالي التخلي عن ثلثي أجهزة الطرد المركزي، وقالت بعض الحكومات الموقعة على الاتفاق إن إيران ابتعدت نحو عام عن امتلاك اليورانيوم المخصب اللازم للقنبلة بالنظر إلى حظر الاحتفاظ بمخزون يزيد عن 300 كيلوغرام من اليورانيوم المنخفض التخصيب، وهي مسألة هزلية لأن الملالي قد أعلنوا عقب اول خلاف أنهم تجاوزوا الحد المسموح به للمخزون!!
الحقيقة أنني اشك في كل الارقام التي تصل اليها وكالة الطاقة الذرية مع نظام يجيد الخداع والمناورة والكذب، لأن الملالي كانوا قبل الاتفاق النووي يمتلكون أكثر من 10آلاف كيلو جرام من اليورانيوم منخفض التخصيب (أقل من 5%) والآن أصبح لديهم ربع تلك الكمية رغم وجودهم ـ نظرياً ـ في الاتفاق (!)
الخلاصة في هذا النقاش العبثي أن الانجاز الأساسي المزعوم للاتفاق النووي وهو إبعاد المسافة التي تربط الملالي بامتلاك سلاح نووي، هو انجاز وهمي قابل للتلاعب والتلاشي في غضون أشهر معدودات، وهو مايحدث الآن بالفعل، فكل القيود المزعومة التي تفرض على هذا النظام هي لكسب الوقت وليس للقضاء على الخطر ومصدر التهديد الاقليمي والعالمي، بل إن الكل يعترف بأن هذا "الانجاز" المزعوم كان يعني فقط تمديد المدة التي يحتاجها الملالي لانتاج الكمية الكافية من المواد الانشطارية التي تكفي لصنع قنبلة نووية من ثلاثة أشهر إلى عام على الأقل!
هل يستحق هذا "الانجاز" كل هذا الجهد من الشركاء الدوليين للابقاء على الاتفاق؟ وهل يستحق هذا الاتفاق من الأساس كل هذا الخلاف بين واشنطن وحلفائها الأطلسيين؟!. الجواب لابد وأن يكون لدى الإدارة الأمريكية المقبلة التي لا يجب ان تتسرع في العودة لاتفاق نووي ملىء بالثغرات، بل انتهت صلاحيته عملياً.