من المعتاد أن ملالي إيران يبالغون كثيراً في قدراتهم ويرفعون شعارات تعبوية زائفة منذ قيام ثورتهم عام 1979، حيث يعد ذلك جزءاً أساسياً من استراتيجيتهم في الحفاظ على التوحد والاصطفاف الأيديولوجي مع أتباعهم ومؤيديهم في إيران وداخلها، فالشحن المعنوي يلعب دوراً مهماً للغاية في تأجيج المشاعر والعواطف ضد من يصفهم بالملالي بأعداء الثورة، وفي مقدمتهم "الشيطان الأكبر" الذي يرمزون به للولايات المتحدة، الذي تمثل علاقته بالملالي أحد أهم نماذج المخاتلة والخداع السياسي الذي يطغي على سلوك القادة الايرانيين بشكل عام.
في إطار هذه الأجواء السياسية الزائفة التي يحيط بها الملالي أنفسهم يمكن فهم فحوى خطابهم السياسي المثير للشفقة أحياناً، وللسخرية أحياناً أخرى، ومن ذلك أقوال الجنرال حسين سلامي قائد الحرس الثوري، التي أدلى بها مؤخراً امام مجلس الشوري الايراني، وقال فيها إن "إيران هزمت الولايات المتحدة من دون دفع ثمن كبير" مشيراً إلى أن "خيار الحرب ضد إيران غير مطروح حالياً" وأن بلاده تمتلك القدرات العسكرية اللازمة لهزيمة الولايات المتحدة في أي نزاع عسكري!
هذه النوعية من القادة الديماجوجيين شائع في العالم، وابتليت بهم بلاد كثر في الماضي والحاضر، وأغلبهم يعيش أوهام القوة ومصاب بداء العظمة والغرور، والبعض منهم يعيش الواقع ويدرك حقيقة توازنات القوى مع الاخرين ولكنه يقتات على تصدير الخداع والوهم لشعبه لأسباب تتعلق بالفشل السياسي والتخطيطي والتنموي والبحث عن مبررات لهذا الفشل، وفي الحالتين لا يصل للشعوب غير الكذب والخداع!
اعتقد أن ملالي إيران ينتمون إلى النوع الثاني من القادة المخادعين، فهم يدركون جيداً حدود قوتهم العسكرية، بدليل أنهم التزموا الصمت تماماً بل وتبرعوا بتقديم خدمات لوجستية مجانية للقوات الأمريكية حين اجتاحت أفغانستان والعراق، خشية أن يطالهم الغضب ومن ثم الضربات الأمريكية. قد يجادل البعض بأن الموقف الايراني وقتذاك كان يهدف لتسهيل مهمة التورط الأمريكي في حربين، لاسيما أن الغزو الأمريكي للعراق تحديداً عام 2003 كان يهدف بالأساس لاسقاط نظام صدام حسين وهو أمر طالما حلم به الملالي ويصب في مصلحتهم الاستراتيجية قبل مصلحة الولايات المتحدة وحلفائها، وهذا صحيح نظرياً ولكن المشهد وقتذاك لم يكن يحتمل مثل هذه الحسابات والتحليلات، والتصميم والاندفاع الأمريكي أثناء الغزو كان يثير خوفاً وقلقاً حقيقياً لدى ملالي إيران، الذين استفادوا بالفعل من نتائج هذا الغزو الذي فتح أمامهم أبواب التغلغل للعراق حتى الآن حتى أن بعض الخبراء الأمريكيين قد اعتبروا فيما بعد أن حرب الولايات المتحدة قد "قدمت العراق هدية لإيران"، ولكنها جميعها كانت تداعيات لاحقة حدثت جراء سوء التخطيط والاعداد لمرحلة مابعد صدام.
يدرك ملالي إيران أيضاَ زيف حديثهم عن القدرات العسكرية التي "أغلقت الباب أمام شن حرب ضد إيران"، ويعرفون تماماً أن مسألة القدرات العسكرية المزعومة هذه لا وزن ولا اعتبار لها في إطار الفوارق الكبيرة في توازنات القوى بين القوة العسكرية الأولى عالمياً، وترسانة عسكرية متهالكة خصوصاً في حالتي القدرات الجوية والبحرية، وأن هناك عوامل عدة أخرى قد حالت ـ ولا تزال ـ دون شن حرب أمريكية ضد إيران في مقدمتها الرؤية الاستراتيجية التي يؤمن بها الرئيس ترامب والقائمة على الرهان على فاعلية استراتيجية العقوبات الصارمة في تركيع النظام الايراني وإجباره على الجلوس للتفاوض، فضلاً عن موقفه بشكل عام من عدم خوض حروب جديدة سواء ضد إيران أو غيرها، ومنح دور أكبر لآلية العقوبات والحصار الاقتصادي في تحقيق أهداف السياسة الخارجية الأمريكية حتى في علاقاتها مع الخصوم الاستراتيجيين الكبار مثل الصين وروسيا.
اللافت أن حديث الملالي وجنرالاتهم عن عدم قدرة الولايات المتحدة على شن حرب ضد إيران قد برز وتزايد في الوقت الراهن وهم من كانوا يتسولون الدعم العالمي منذ أشهر قلائل خشية توجيه ضربات عسكرية أمريكية ضدهم، فالكل يعلم تماماً أن فكرة الحرب ضد إيران مستبعدة إلى حد كبير لسبب رئيسي يتعلق بانعقاد الانتخابات الرئاسية الأمريكية في نوفمبر المقبل، حيث يمثل قرار كهذا مغامرة سياسية غير مضمونة العواقب لأي رئيس أمريكي يخوض السباق الانتخابي للفوز بولاية رئاسية ثانية، ما لم تتعرض المصالح القومية الأمريكية في الخارج لخطر كبير يستوجب القفز على أي حسابات انتخابية آنية.
بشكل عام فإن فكرة النصر والهزيمة لدى الأنظمة الحاكمة المؤدلجة والميلشيات والتنظيمات التابعة لها هي فكرة زئبقية مطاطة، فهم من يضعون معايير النصر وقواعد الهزيمة، وهم من يدعّون حدوث النصر حتى لو كانت خسائرهم تفوق القدرة على التخيل، وقد رأينا جميعاً كيف أن "حزب الله" اللبناني يزعم النصر في كل الجولات العسكرية التي خاضها ضد إسرائيل رغم أن الكل كان يتابع حجم الخسائر المهول والفاتورة الباهظة التي تتحملها الخزانة اللبنانية جراء مغامرات الحزب غير المحسوبة وخروجه على شرعية الدولة تنفيذاً لاملاءات وقراءات تفرض عليه من طهران!