تمثل عملية اغتيال العالم النووي الايراني محسن زادة منعطفاً حيوياً في علاقات ملالي إيران مع العالم الخارجي، لأن هذه العملية تحديداً جاءت في وقت عصيب للغاية بالنسبة للملالي، حيث يلاحظ أن تصريحات قادة النظام قد جاءت هذه المرة بشكل مغاير لما كان عليه الوضع عقب مقتل الجنرال قاسم سليماني في يناير الماضي، كما حرصت التصريحات على أن تتضمن مفردات منتقاة بعناية مثل "الرد المدروس" و"في الوقت والمكان المناسبين" وهي عبارات متكررة في الخطاب السياسي الايراني وكذلك خطاب قادة ما يعرف بمحور المقاومة بشكل عام، وباتت توحي بأن الرد السريع غير وارد، وأن مسألة الرد ستخضع لحسابات براجماتية دقيقة لا علاقة لها بمسألة الهيبة والثأر وغير ذلك مما يردده أنصار الملالي واتباعهم في وسائل اعلامهم ومواقعهم الالكترونية.
وبغض النظر عن مسألة رد الملالي على عملية الاغتيال من عدمه، فإن قرار الرد بحد ذاته يبدو أصعب كثيراً عن نظيره حين كان الأمر يتعلق بمقتل الجنرال سليماني لأن الوضع هذه المرة يتزامن مع تولي إدارة امريكية جديدة لا يريد نظام الملالي تعقيد العلاقات معها قبل أن تبدأ، لاسيما في ظل "حماس" الرئيس المنتخب جو بايدن الواضح لفكرة العودة للاتفاق النووي الموقع مع إيران، وإصراره على ما ردده خلال حملته الانتخابية بشأن هذه العودة رغم اعترافه مؤخراً بأن القرار ليس سهلاً، ولكنه أكد مجدداً على أن الاتفاق مع إيران يبقى البديل الوحيد، حيث قال بايدن في حوار له مع صحيفة "نيويورك تايمز" مؤخراً إنه "بدون اتفاق نووي مع إيران قد نكون أمام وضع تسعى فيه السعودية وتركيا ومصر ودول أخرى في المنطقة إلى تطوير أسلحة نووية"، وقال بايدن في معرض جوابه عن سؤال ما إذا كان مستعدا للعودة إلى الاتفاق النووي:"إن الأمر لن يكون سهلا، لكن نعم"، وأضاف أن "الإدارة المستقبلية تعتزم، بالتعاون مع الحلفاء والشركاء، المشاركة في مفاوضات ووضع اتفاقيات إضافية من شأنها تعزيز وتوسيع القيود المفروضة على البرنامج النووي الإيراني، وكذلك تتعلق ببرنامج طهران الصاروخي"، وهذا الأمر يعني "أملاً" جديداً يتوقع ان يتمسك به الملالي بقوة كسبيل للخروج من نفق العقوبات الصارمة التي فرضها الرئيس ترامب.
الحقيقة في هذا الموقف أن هناك بعض الملاحظات المهمة أولها أن الرئيس بايدن بتمسكه بالاتفاق سيعيد انتاج أخطاء إدارة الرئيس السابق باراك أوباما حتى لو استقر الأمر على توسيع هذا الاتفاق ليشمل البرنامج الصاروخي الايراني، لأن أي اتفاق مع الملالي لابد وأن يشتمل على معالجة شمولية متكاملة لكل ما يتعلق بهذا النظام، ولاسيما التهديدات التي يمثلها على دور الجوار، وهنا لا بد من الانصات جيداً لصوت دول مجلس التعاون من أجل بناء مقاربة استراتيجية جيدة تصلح كمدخل حقيقي لتحقيق الاستقرار الاقليمي في هذه المنطقة الحيوية من العالم، وذلك لن يتأتى سوى بإشراك مجلس التعاون كطرف في أي حوار مرتقب تجريه الادارة الأمريكية وبقية مجموعة دول "5+1" مع ملالي إيران، أو بعقد اجتماع بين ممثلي دول مجلس التعاون من جهة وممثلي هذه الدول من جهة ثانية لأخذ وجهات نظرهم وتصوراتهم لشكل الترتيبات الأمنية الاقليمية الضامنة للاستقرار قبل خوض أي جولة تفاوضية جديدة مع النظام الايراني؛ ومن دون ذلك قد يتم التوصل إلى اتفاق يشمل تمديد أمد الاتفاق النووي فيما يتعلق بتأجيل وليس انهاء الطموحات النووية الايرانية كما هو حاصل في الاتفاق الحالي الذي اوشك فعلياً على الانتهاء زمنياً بعد وفاته اكلينيكياً، وتضمين البرنامج الصاروخي الايراني في النسخة المعدلة أو المطورة من هذا الاتفاق الملىء بالثغرات، والذي لن يكون بديله بحال افضل منه كثيراً ما لم يتم أخذ جميع وجهات النظر ومعالجة كافة العيوب والثغرات التي تؤخذ على الاتفاق الحالي، وجعلت منه بمنزلة تفويض للملالي بتوسيع نفوذهم وتهديد جوارهم الاقليمي، وهذا مايحدث بالفعل. وهنا لابد من الاشارة إلى جزئية مهمة ذكرتها صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية وهي أن بايدن يرغب في توسيع المباحثات لتشمل دولاً لم توقع اتفاق 2015 (الولايات المتحدة والصين وروسيا وفرنسا والمانيا وبريطانيا) بالاضافة إلى إيران (قد يكون هناك بالتأكيد دور لدول الجوار وهذا المنطق الأقرب للتصور)، وهي ملاحظة ايجابية ولكنها لا تزال في مربع التحليل أو التسريب الاعلامي، ولم يتم تأكيدها رسمياً من جانب فريق عمل الرئيس المنتخب، ولو صحت فستكون بداية جيدة للغاية في علاقات الإدارة الأمريكية المقبلة الشرق أوسطية وكذلك جهودها في تحقيق الأمن والاستقرار الاقليمي.
الملاحظة الثانية أن الملالي، ورغم كل ما يسربونه من تقارير اعلامية وادعاءات حول خلافات ورغبة قوية لما يسمى بالجناح المتشدد في النظام الايراني بالانتقام والثأر وغير ذلك، فإنهم ينتظرون بترقب بالغ يوم العشرين من يناير المقبل كي تبدأ فعلياً حقبة جديدة في العلاقات الايرانية الأمريكية، وهي حقبة لن تكون كما يتوقعون في حال قام الملالي بأي رد يمس مصالح الولايات المتحدة او اسرائيل، لأن هذا الرد سيضع إدارة الرئيس المنتخب بايدن في واقع استراتيجي جديد يملي عليه عدم تجاهل البيئة الجديدة لاتخاذ أي قرار بشأن موقف بلاده من الاتفاق النووي مع إيران، ولذا اعتقد أن الملالي سيتريثون ويفكرون ألف مرة قبل اتخاذ أي قرار بالرد على عملية اغتيال العالم النووي محسن زادة، خصوصاً أن حساباتهم البراجماتية ستوضح أن خسارة زادة لن تكون أكثر كلفة من خسارة الجنرال سليماني، باعتبار أن البرناج النووي الايراني قد قطع شوطاً كبيراً ولم يعد يعتمد على شخص واحد مهما كانت قدراته وخبراته وكفاءته العلمية والبحثية في هذا المجال، بعكس سليماني الذي يمثل خسارة فادحة للغاية للحرس الثوري الايراني، حيث اتضح أثره ودوره الحيوي الغائب في ضعف وتراجع القدرات العملياتية لميلشيات الحرس في العراق وسوريا منذ مقتله.
الملاحظة الثالثة أن النقطة الأخطر في موقف الإدارة الأمريكية من الاتفاق النووي أن الرئيس المنتخب بايدن يبدو أنه يتجه للعودة أولاً للاتفاق النووي كنقطة استئناف لأي حوار حول تطوير الاتفاق وتوسيعه، وهذا الأمر قد يبدو منطقياً من الناحية الشكلية، ولكنه يمثل خطأ استراتيجياً بالغاً في حال حدث بالفعل، لأن عودة الولايات المتحدة لاتفاق من دون ترتيبات مسبقة واتفاقات حول الخطوات التي سيتم اعتمادها عقب هذه العودة التي يفترض أن تكون مشروطة، سيحصل الملالي على كل شىء من دون أن تحصل واشنطن بالمقابل على أي شىْ ! وكان بايدن قد كتب في سبتمبر في مقال إنه إذا "احترمت طهران مجددا" القيود المفروضة على برنامجها النووي في الاتفاق الدولي المبرم في 2015، ستعود واشنطن بدورها إلى الاتفاق كـ"نقطة انطلاق" لمفاوضات "متابعة"، وهذا ما قصدته بضرورة العودة الأمريكية المشروطة للاتفاق.