قلت مراراً وتكراراً أنني لا أرى فيما يثار بشأن الصراع بين من يعرفون بالمحافظين والإصلاحيين في نظام الملالي الإيراني، قدراً من الصحة، ولا أراه سوى تقاسم مدروس للأدوار في إطار فريق متناغم يمسك بتلابيب السلطة ويحافظ عليها بشتى الطرق، وحيث يعمل رأس النظام (المرشد الأعلى) على رسم الأدوار وتوزيعها وفقاً لقدرات اللاعبين ومهاراتهم السياسية والدعائية.
في هذا الإطار، يمكن فهم ما يتردد في التقارير الاعلامية بشأن «خلافات عميقة» بين جناحي نظام الملالي حول سبل التعاطي مع اغتيال العالم النووي الإيراني محسن فخري زادة، وكيفية الرد على هذه العملية التي تمثل ضربة مهينة للنظام ونسفاً لكل ما يشيعه حول قدراته العملياتية والاستخباراتية، ولعل خروج أنباء هذا الخلاف إلى العلن وتداوله إعلامياً من قبل الصحف والمواقع الإيرانية يمثل بحد ذاته أكبر دليل على أنه خلاف مفتعل لسبب بسيط هو أنه لا يمكن لنظام يواجه هذه الأزمة العميقة أن يسمح بخروج مثل هذه الأنباء ما لم يكن هناك تسريب متعمد ومرسوم بعناية ودقة لتحقيق أهداف استراتيجية معينة، وبمعنى آخر فإن مسألة التفكير في الرد على عملية اغتيال بهذا الحجم لا يمكن لها أن تكون موضع خلاف بهذا الشكل الساذج، فالأمر يتعلق - بغض النظر عن موقفنا ورأينا في ممارسات هذا النظام البائس - بهيبة الدولة الإيرانية ومس مباشر بمكانتها الاقليمية والدولية، لذلك يبدو غريباً أن تخرج مثل هذه التسريبات ما لم يكن ذلك متعمداً، وأن هناك نية لاستغلال الحدث سياسياً في توجيه رسالة للإدارة الأمريكية المقبلة، ودفعها للتفكير في كيفية استغلال هامش المناورة الذي يتيحه هذا «الخلاف» المزعوم بين جناحي النظام، بالمسارعة إلى تقديم بادرة تقوي موقف الجناح الداعي للتهدئة والتعقل على حساب الجناح الداعي للرد بقوة على هذه العملية.
ثمة برهان آخر -برأيي- على أن سيناريو الخلاف هو سيناريو مفتعل بامتياز، هو أن مجلس الشورى الإيراني قد بادر إلى تبني قانون يطالب الحكومة الإيرانية بعدم الالتزام ببنود الاتفاق النووي، وعدم السماح لفرق التفتيش التابعة للوكالة الدولية للطاقة الذرية بأداء مهامها الروتينية في تفقد المنشآت النووية الإيرانية، وكذلك رفع معدلات التخصيب إلى مستوى 20 في المائة ما لم ترفع العقوبات الاقتصادية، ويتم فتح القطاع المصرفي العالمي وسوق النفط العالمي أمام صادرات إيران في غضون شهر، وهو مشروع قانون أو قرار غريب لأن مجلس الشورى الإيراني، كأي برلمان، ليس له صلاحية تبني قرارات أو قوانين سيادية ملزمة للحكومة في أمور الأمن القومي، بل لديه سلطتا التشريع والرقابة، بمعنى أنه يمكن أن يحاسب الحكومة ويساءلها في إطار سلطة الرقابة البرلمانية، أي أنه يمارس سلطة بعدية لا قَبلية على قرارات النظام، ويصادق كذلك على خطط وسياسات الحكومة وله أن يرفض ما يشاء من هذه الخطط والسياسات ولكن قراراته تبقى غير ملزمة حتى يقرها ويصادق عليها المرشد الأعلى، وبالتالي فإن تبني المجلس مثل هذه القرارات أو القوانين لا يستهدف سوى الايحاء للخارج بوجود ضغوط كبرى على الرئيس روحاني وحكومته من أجل تبني مواقف متشددة بشأن الاتفاق النووي رداً على اغتيال زادة.
مثل هذه السيناريوهات لها أيضاً دور داخلي بالغ الأهمية بالنسبة لنظام الملالي، فهي تقوم بامتصاص غضب الشارع الإيراني وحنقه على النظام الذي يدعي امتلاك ذراع خارجية طويلة ولكنه يفشل في حماية أحد أهم علمائه في داخل مدينة إيرانية، فالعملية توجه لطمة قوية مهينة لكل ادعاءات الملالي وأوهام القوة التي يرددونها، لا سيما أنها تأتي في غضون أقل من عام من اغتيال قائد الحرس الثوري الإيراني السابق قاسم سليماني في عملية عسكرية أمريكية وضعت الملالي في مأزق بالغ الحرج واضطروا إلى القيام برد «محسوب» للغاية رغم الضجيج الإعلامي الذي أعقب العملية حول سيناريوهات الرد الإيرانية الانتقامية!
والحقيقة الوحيدة المؤكدة في كل ما يثار بشأن سيناريوهات الرد الإيرانية على مقتل «أبو البرنامج النووي الإيراني» هي أن مصلحة النظام واستمراره هي كلمة السر في أي تفكير يتعلق بالرد على هذه العملية، والمسألة لا علاقة لها بصراع أجنحة أو غير ذلك، فالملالي اعتادوا «تجرع كأس السم» وممارسة التقية السياسية طالما تحققت مصلحتهم، وبالتالي فكل ما يدور من ضجيج إعلامي ودعائي حول سيناريوهات الرد الإيرانية على اغتيال زادة ومن قبله الجنرال قاسم سليماني مرهونة بنتائجها المحتملة ومدى تأثيرها في مصير نظام الملالي.