تنطوي عملية اغتيال العالم النووي الايراني محسن زادة على نقاط عدة مهمة للغاية تستحق الوقوف عندها تحليلياً للتعرف على آثارها وانعكاساتها المحتملة، أول في هذه النقاط أن هناك "لوبي" إعلامي عربي يدين بالولاء أو التعاطف لملالي إيران، يحاول الترويج للفكرة القائلة بأن الرد الايراني على الاغتيالات الأخيرة التي نالت من هيبة النظام، قادم لا محالة، وأنه سيكون "رداً مزلزلاً" يعيد للملالي هيبتهم في عيون مؤيديهم وأنصارهم من التنظيمات الطائفية في المنطقة، وأن الرد بات "حتمياً" لاستعادة قوة الردع والهيبة المفقودة! واللافت أنني لاحظت أن هذا اللوبي يدفع باتجاه الرد الانتقامي الايراني ويغذي هذا التوجه بشدة رغبة دفينة لدى هذا الفريق في تورط الملالي في صراع عسكري مع دول مجلس التعاون، حيث يتمنى الحاقدين على هذه الدول أن يقوم الملالي بتوجيه خطط الانتقام و"الثأر" لمقتل زادة باتجاه جيرانها الخليجيين!
النقطة الثانية أن خيارات الرد الايراني على عملية اغتيال "أبو البرنامج النووي الايراني"، تبدو محدودة وصعبة للغاية، فعنصر التوقيت يلجم كل خيارات الرد ويجعل منها مغامرة فعلية ما لم يتم اللجوء إلى "رد محسوب" للغاية لحفظ ماء وجه النظام أمام مؤيديه وأتباعه، وهذا عائد بالأساس لأن أي عملية انتقامية إيرانية ستفاقم التعقيدات المحيطة بتنفيذ تصريحات الرئيس المنتخب جو بايدن بالعودة إلى الاتفاق النووي الموقع مع ملالي إيران، والملالي يدركون أن عنصر التوقيت في عملية الاغتيال قد تم اختياره بعناية فائقة بهدف خلط الأوراق ووضع العصا في عجلة الإدارة الأمريكية المقبلة، وربما يستهدف ماهو أكثر في حال تهور الملالي ومساسهم بأمن اسرائيل أو المصالح الاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط، بما يجلب رد فعل أمريكي أو اسرائيلي مضاد، حيث يتوقع أن يسفر أي تحرك في هذا الاتجاه إلى صدور أمر من الرئيس ترامب بتوجيه ضربة عسكرية محدودة للمنشآت النووية الايرانية قبل ان يغادر منصبه.
النقطة الثالثة أن عملية اغتيال العالم النووي الايراني الأبرز قد رسخت الفكرة التي تتردد خلال الأشهر الأخيرة حول ضعف النظام الأمني الايراني الملىء بالثغرات، فهناك اختراق غريب لإجراءات الحرس الثوري الايراني لحماية عالم نووي بهذه الأهمية، ويعتبر من قيادات الحرس البارزة، حيث فشلت اجراءات حمايته وحصل منفذو العملية على كل مايحتاجونه من معلومات دقيقة حول خطط تحرك وانتقالات زادة، وهو فشل كبير يضاف لسلسة طويلة من الاخفاقات الأمنية التي يعانيها نظام الملالي في الأشهر الأخيرة، حيث تشهد إيران بوتيرة لافتة، حرائق وتفجيرات في مواقع نووية وعسكرية، يقول النظام أنها أعمال تخريبية، ناهيك عن سرقة وثائق نووية سرية كانت مخبأة في منطقة بجنوب طهران، وذلك منذ نحو عامين تقريباً، حيث تم نقلها إلى اسرائيل.
النقطة الرابعة ظهور علامات الارتباك وسوء إدارة الأزمة على قيادات الملالي، حيث يلاحظ أن الارتباك الحاصل عقب مقتل الجنرال سليماني قد تكرر في واقعة اغتيال زادة، ويبدو أن الملالي لم يتعلموا من الدرس السابق ومايحيط بهم من أزمات متكررة في الداخل الايراني والفاعل في كل مرة مجهول، ولا يعدون سيناريو لإدارة مثل هذه الأزمات والتعامل معها بحرفية، ما يعكس غباء الإدارة والغرور الزائد الذي تسبب في السقوط مرة تلو الأخرى في أخطاء ساذجة مثل مسارعة وزير الخارجية الايراني جواد ظريف إلى تحميل أطراف عدة ، ومنها المملكة العربية السعودية، مسؤولية عملية اغتيال العالم الايراني، علماً بأنه يدرك تماماً أن الرياض لا علاقة لها بمثل هذا النوع من العمليات، وبالتالي فهو يضيف مزيداً من التعقيد لعلاقات متوترة ومعقدة بالأساس بسبب ممارسات الملالي وتخبطهم في إدارة علاقاتهم مع الجوار الاقليمي.
الخلاصة أن ملالي إيران يدركون أن رهانهم على استراتيجية التريث بانتظار تولي سيد البيت الأبيض الجديد مهام منصبه رسمياً في العشرين من يناير القادم باتت موضع اختبار صعب للغاية، حيث وضعت عملية اغتيال زادة كل شعارات وادعاءات النظام الايراني موضع الشك من قبل مؤيديه من القوى الطائفية في الاقليم، وبالتالي بات الملالي بين خيارين كل منهما أصعب من الآخر، والانتظار هذه المرة ربما يفوق في صعوبته فكرة "تجرع كأس السم" التي سبق للملالي الخضوع لها لكسبيل وحيد لانهاء الحرب مع نظام صدام حسين، كما أن أي قرار بالرد الانتقامي قد تكون تكلفته القضاء التام على البرنامج النووي الايراني، وهي تكلفة باهظة قد تنهي تماماً مشروع الملالي في حكم إيران.