رغم ما أعلنته من "شروط" ظن الكثيرون أنها تعكس تحفظ إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن على منح ملالي إيران صكًا على بياض بشأن الاتفاق النووي، فإن الأيام القلائل الماضية قد اثبتت أن الإدارة الأمريكية الجديدة والثلاثي الأوروبي (بريطانيا وألمانيا وفرنسا) قد خضعوا للابتزاز والتهديد الايراني، حيث تسارعت في الساعات الأخيرة وتيرة الخطوات الغربية الهادفة لما يمكن تسميته "إرضاء" الملالي والحيلولة دون الوصول إلى نهاية المهلة الزمنية التي منحوها للولايات المتحدة للعودة إلى الاتفاق النووي!
كانت آخر خطوات "الهرولة" الغربية باتجاه طهران موافقة الولايات المتحدة على المشاركة في محادثات تضم إيران وقوى دولية بغية إحياء الاتفاق النووي، وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية، نيد برايس، إن الولايات المتحدة قد قبلت دعوة من الاتحاد الأوروبي لإجراء محادثات مع إيران، وقال الدبلوماسي بالاتحاد الأوروبي انريكي مورا الذي عرض عقد المحادثات إن "هذه لحظة حاسمة" بالنسبة للاتفاق، واللافت هنا أن إيران نفسها لم ترد رسميًا على المقترح الأوروبي باستنئاف المحادثات، بل ذهبت إلى مربع جديد من الابتزاز والمساومة عبر "تغريدة" كتبها وزير الخارجية الايراني محمد جواد ظريف على "تويتر" قال فيها إن بلاده لن تلتزم بالاتفاق كاملا إلا بعد رفع العقوبات الأمريكية.
القراءة الأولية لما حدث تشير إلى خضوع إدارة الرئيس بايدن للضغوط الايرانية التي تسارعت وتزايدت في الأيام الأخيرة، وكان أحدثها التهديد بمنع عمليات التفتيش الدولية لمواقعها النووية في غضون أيام إذا لم ترفع الولايات المتحدة عقوباتها، ما دفع الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون (بريطانيا وفرنسا وألمانيا) إلى المسارعة بدعوة إيران إلى العزوف عن منع عمليات التفتيش، واكتفوا بتحذير مشترك من أن هذه الخطوة ستكون "خطيرة".
الأمر الجلي في هذه التطورات المتسارعة أن المؤشرات الأولية تؤكد أن إدارة الرئيس بايدن لم تستعد بشكل كاف لإدارة أزمة مع خصم مناور مخادع يفترض أن معظم مسؤولي هذه الإدارة يعرفونه جيدًا، ولديهم إلمام كاف بسيكولوجية الملالي وأساليبهم في المراوغة والتملص من الالتزامات وكسب الوقت وارهاق الأطراف الأخرى، ولاسيما أن روبرت مالي المبعوث الأمريكي الخاص بالشأن الايراني، كان مهندس الاتفاق النووي عام 2015، بحكم كونه عضوًا رئيسيًا في فريق أوباما للتفاوض حول هذا الاتفاق.
انتقلت الكرة الآن إلى الملعب الأمريكي ـ الأوروبي، وأصبح الملالي الطرف المبادر إلى محاصرة القوى الغربية في زاوية حرجة بعد أن تبدلت المواقع وانتقل الملالي، الذين كانوا في وضع دفاعي بائس لا يحسدون عليه يرفعون أصوات الاستغاثة منذ أسابيع قلائل إلى مربع الهجوم، وتغيرت بسرعة تكتيكاتهم التفاوضية، ونجحوا في الانتقال من سيناريو لآخر بفعل تهديدات متواصلة ومتصاعدة بشأن تقليص الالتزامات التي ينص عليها الاتفاق النووي تارة، وبشأن التلويح بالانتقال إلى خيار امتلاك قنبلة نووي حسبما لوحّ وزير الأمن الايراني محمود علوي، وحذر من أن الضغط الغربي المستمر يمكن أن يدفع طهران إلى الدفاع عن النفس مثل "قط محاصر" والسعي لحيازة أسلحة نووية، وهو تهديد إيراني محسوب بدقة، ويبدو أنه ترك أثرًا بالغًا لدى الفريق الرئاسي الأمريكي الجديد!
الواقع يقول أن الملالي حققوا هدفًا سريعًا ومباغتًا في مرمى القوى الغربية تحديدًا، وأيًا كانت الخطوة التالية لهذه القوى فإن خضوعها للضغوط والتهديدات الايرانية سيبقى عاملًا مؤثرًا على الخطوات المقبلة. وقد حذرت في مقال سابق من خطورة سياسة "حافة الهاوية" التي ينتهجها الملالي، ويجيدون استخدامها في كل مفاوضات مع الغرب، كما حذرت أيضًا من تردد الثلاثي الأوروبي وتهاونه في التعاطي مع السلوك الايراني المتهور، ولكن الحاصل أن الغرب يكرر الأخطاء مجددًا، ويلجأ إلى سياسة "الجزرة" دون "العصا" في التعامل مع الملالي، الذين عادوا إلى لغتهم الخشنة منذ انتهاء ولاية الرئيس السابق ترامب، كونهم يدركون تمامًا أن الرئيس بايدن قد وضع الدبلوماسية كخيار وحيد ونهائي في التعامل مع نظام لا يمكن أن يستجيب للمنطق الدبلوماسي طالما وجد نفسه في موقع يتيح له الحصول على مكاسب استراتيجية كبرى وهذا ما يمكن أن نجد صداه في تصريح أمير عبد اللهيان مساعد رئيس مجلس الشورى الايراني الذي قال فيه محذرًا من الانسحاب من البروتوكول الاضافي لوكالة الطاقة الذرية بعد انتهاء المهلة الممنوحة لإلغاء العقوبات المفروضة على إيران: "بكل تأكيد لن ننتظر الاجتماعات والتقاط الصور والوعود الفارغة للبيت الأبيض والترويكا الأوروبية "! علاوة على أن تجارب التفاوض في أزمات مع قوى مارقة أخرى تؤكد ضرورة المزاوجة بين "العصا" و"الجزرة"، حيث لا نجاح لإحداهما دون الأخرى.
لماذا تهادن الإدارة الأمريكية بسرعة غير متوقعة أمام الضغوط والتهديدات الايرانية؟ّ هذا السؤال المحير يثير قلق الكثير من المراقبين خشية أن تستمر سلسلة التنازلات في ظل ماحدث مبكرًا، لاسيما أن الملالي قد انتهزوا الفترة الانتقالية في الولايات المتحدة وقاموا بمراكمة ما يمكن المساومة عليه في إطار تنازلات متبادلة ضمن أي مفاوضات متوقعة، ومن ذلك العودة إلى نسب ومعدلات تخصيب اليورانيوم المنصوص عليها في الاتفاق النووي، والتخلي عن انتاج اليورانيوم في مفاعل اصفهان، ناهيك عن فكرة "القنبلة النووية" ذاتها، وهذا يعني أن التفاوض قد يتمحور حول "مقابل" عودة الملالي إلى مرحلة ماقبل الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي، وليس حول أمور وقضايا أساسية مثل توسيع نفوذ ايران ودورها الاقليمي ومشاركة دول الجوار في أي مفاوضات مقبلة.
قناعتي أن العقبة الأشد في إدارة القوى الغربية للأزمة مع ملالي إيران تكمن في غياب سيناريوهات بديلة للدبلوماسية، فنظام الملالي ليس نظامًا طبيعيًا عاقلًا كي يدرك قيمة التمسك بالدبلوماسية في إدارة هذه الأزمة الحساسة، فهو نظام يقتات على الأزمات، ويصعب عليه الحياة في ظروف طبيعية بحكم عدم امتلاكه أي مشروع عدا المشروع التوسعي العسكري الذي يلتهم كل موارد الشعب والدولة الايرانية لمصلحة أذرع وميلشيات تعمل لمصلحة الملالي وفكرهم الطائفي.