رغم رفض الرئيس حسن روحاني الواضح والصريح لعودة بلاده للالتزام ببنود الاتفاق النووي قبل عودة الولايات المتحدة للانخراط مجدداً في الاتفاق الذي انسحب منه الرئيس السابق دونالد ترامب في منتصف عام 2018، عاد وزير الخارجية الايراني محمد جواد ظريف ليطرح استراتيجية يمكن تسميتها بالعودة المتزامنة أو سياسة "الخطوة خطوة"، حيث تحدث عما وصفه بحل وسط يتمثل في العودة المتزامنة للاتفاق وبنوده والتزاماته من قبل الجانبين، الايراني والأمريكي، وذلك وفق خطوات متدرجة، أي تناول مقابل تنازل، وهكذا تمضي الأمور بحسب رؤية ظريف وبرعاية وسيط أوروبي.
والحقيقة أن الرد الأمريكي على المقترح الايراني جاء في صيغة الرفض المبطن، واعتقد أن هذا الأمر مقنع لسبب بسيط أن الولايات المتحدة لايمكنها الحديث عن عودة للاتفاق النووي قبل التأكد من عودة إيران لالتزاماتها الواردة في هذا الاتفاق، ولاسيما ما يتعلق بنسب تخصيب اليورانيوم (5ر3%) والتأكد من التخلص من كميات اليورانيوم المخصب المنتجة خلال فترة انتهاك بنود الاتفاق، وكذلك تفتيش المنشآت النووية الايرانية للتأكد من سقف القدرات الانتاجية لأجهزة الطرد المركزي في تلك المنشآت، وهي عملية معقدة ويتوقع أن تستغرق وقتاً لن يقل عن عام، وبالتالي يصبح اي إعلان امريكي عن بدء إجراءات العودة للاتفاق النووي بمنزلة انتصار سياسي مجاني للملالي من دون أي مقابل للجانب الأمريكي!
صحيح أن المزاج السياسي للملالي بات يميل إلى التشدد أكثر من أي وقت مضى بحكم الاهانات القاسية التي تعرض لها النظام خلال فترة حكم الرئيس ترامب، ولكن المنطق يقول أن عليهم إبداء مرونة تفاوضية سواء فيما يتعلق بإطار المفاوضات المزمعة التي يرى الجميع أنها يجب أن تشمل دولاً اقليمية مثل المملكة العربية السعودية ودولة الامارات، أو باعلان التوقف عن انتهاك بنود الاتفاق النووي لتهيئة الأجواء ومنح الفرصة للإدارة الأمريكية لاتخاذ قرار صعب يخص العودة للاتفاق، لاسيما أن هذا الأزمة قد استنزفت الكثير من الجهود الأمريكية في الشرق الأوسط، وباتت معقدة لدرجة يصعب معها القول بأن هذه العودة هي مفتاح استعادة الأمن والاستقرار الاقليمي.
الواقع يقول أن الملالي لا يجيدون قراءة إشارات الإدارة الأمريكية الجديدة، وظلوا يتعاملون معها ـ حتى قبل أيام مضت ـ باعتبارها امتداداً لإدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما، حتى فاجأتهم تصريحات انتوني يلينكن وزير الخارجية الجديد، والتي اكد خلالها حرص إدارته على التشاور مع حلفائها قبل الاقدام على أي خطوة تجاه الملف النووي الايراني، وتحدث عن الغاء الاتفاق القديم والتفاوض من أجل التوصل إلى اتفاق جديد بشروط جديدة، متضمنة البرنامج الصاروخي الايراني والدور الاقليمي والأذرع الميلشياوية العسكرية لنظام الملالي، وهذا كله يعني أننا أمام رؤية أمريكية لم تتغير تقريباً بتغير سيد البيت الأبيض، وأن التغير الحاصل هو تغير على مستوى التكتيك، وقد كان ذلك واضحاً بجلاء منذ بداية الحملة الانتخابية للرئيس بايدن، فالاعتراض والنقد كان موجهاً لإستراتيجية ترامب وليس للهدف، وهذا ما نراه الآن واضحاً، ولكن الملالي استغرقوا في التحليل بالتمنى واعتقدوا أن هناك انقلاباً او تحولاً جذرياً سيحدث، وأن الولايات المتحدة بصدد العودة لنهج الرئيس أوباما في التعامل مع هذا الملف المعقد!
قناعتي أن تصريحات بلينكن تشير إلى موقف أمريكي أكثر حزماً من مواقف إدارة الرئيس ترامب، الذي لم يتحدث على سبيل المثال عن أن الملالي على بٌعد أسابيع من امتلاك سلاح نووي، وهذا التصريح بحد ذاته مهم للغاية ليس لأنه يلزم الإدارة الأمريكية بتحرك سياسي جادة لوقف هذا الخطر الداهم على مصالحها وحلفائها، ولكن لأن الوزير الجديد لم يكن مضطر إليه خصوصاً في بدايات تولي المسؤولية، ولكن يبدو أنه أراد وضع الحلفاء الأوروبيين أمام مسؤولياتهم والقيام بدور رئيسي في الضغط على الملالي والتصدي مبكراً لأي دعم روسي أو صيني للجانب الايراني في مسألة الاتفاق النووي، وربما أراد بلينكن كذلك تعظيم الضغوط على الملالي باعتبار أن تقييمه المعلن للخطر يمثل في أحد أبعاد "ضوءاً أخضر" يمكن لإسرائيل ـ لو أرادت ـ استغلالها في توجيه ضربة عسكرية مباغتة ضد المنشآت النووية الايرانية، ولاسيما أن الجانب الاسرائيلي قد تجاوز عتبة التهديد الاعلامي وبات يناقش هذا السيناريو بشكل رسمي معلن على المستوى الحكومي والعسكري، حتى أن الحكومة الأمنية المصغرة قد عقدت اجتماعاً خٌصص لمناقشة الملف النووي الايراني.
الواضح أن الملالي لا يريدون الظهور بمظهر المتراجع ويسعون منذ البداية للحصول على انتصار سياسي في حال عودة الولايات المتحدة للاتفاق بشكل غير مشروط، ولكن الرئيس بايدن في المقابل لا يمكنه الاقدام على هكذا خطوة في ظل هذه البيئة الداخلية المنقسمة، كما أنه يحتاج إلى اتخاذ قرارات تثبت استعادة هيبة الولايات المتحدة عالمياً لا العكس، وبالتالي يبقى الموقف محلك سر، بانتظار اختراق مؤثر من جانب أحد الأطراف المعنية بالأزمة، وهذا امر مستبعد على الأقل في ظل المعطيات الراهنة.