اتابع بدقة، وبحكم عملي كباحث ومحلل، التطورات المتسارعة في أزمة الاتفاق النووي الايراني منذ عرض الإدارة الأمريكية إجراء محادثات مع طهران حول إحياء الاتفاق النووي المبرم عام 2015، والذي انسحبت منه إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب في عام 2018، فوجدت أن الملالي يتجهون إلى زيادة التصعيد وفق استراتيحية "حافة الهاوية"، ورغم إبداء ثقتهم في رفع العقوبات الأمريكية رغم الخلافات، فإنهم لا يقدمون أي تنازل يعزز هذا الاتجاه، بل يذهبون في اتجاه معاكس تماماً، فلم يقدموا ـ حتى الآن ـ رداً على مبادرة الحوار، واتجهوا إلى تعليق مهام التفتيش التي تجريها وكالة الطاقة الذرية وهددوا برفع مستوى تخصيب اليورانيوم إلى 60%!
تعليقاً على ماوصفه دبلوماسيان أوروبيان بالاستفزازات الايرانية، قال مسؤولون أمريكيون وأوربيون في تصريحات صحفية أن ردهم سياتي هادئاً ومدروساً، وأن غياب الرد الملموس يعكس رغبة في عدم تعطيل المبادرة الدبلوماسية على أمل أن تعود إيران إلى مائدة التفاوض، أو استمرار فاعلية العقوبات الامريكية إذا لم يحدث ذلك.
الواقع يشير إلى أن إدارة الرئيس بايدن لن تقدم تنازلاً يتعلق برفع العقوبات أولاً كما يطالب الملالي، وفي ذلك أكد مسؤول أمريكي مشترطا عدم الكشف عن هويته أيا كان مدى اعتقادهم أن على الولايات المتحدة أن ترفع العقوبات أولا، فلن يحدث ذلك"، ولكن الملاحظ هنا أن البيت الأبيض لا يطالب الملالي كذلك ـ كما كان الحال قبل أسابيع ـ بإعلان عودتهم لالتزاماتهم الواردة في الاتفاق النووي الموقع عام 2015 أولاً قبل رفع العقوبات، بل يرى أن "أفضل سبيل لذلك بل السبيل الوحيد هو الجلوس إلى المائدة حيث يتم بحث هذه الأمور"، كما قال مسؤول أمريكي. والمؤكد أن النقطة الأهم في المرحلة الراهنة بالنسبة للرباعي الغربي "الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا وبريطانيا"، هو تفادي أي خطوة تغلق الباب في وجه الدبلوماسية، وهنا يبدو الموقف الأوروبي حذراً للغاية في مواجهة مايصفه بـ "اندفاع" إيران (أي تسارع انتهاكاتها لالتزاماتها الواردة في الاتفاق النووي) و"تردد" الولايات المتحدة بحثاً عن سبيل للتقدم.
الخطير في هذه المسألة أن يفهم الملالي الهدوء الغربي المدروس بشكل خاطىء، ويواصلوا انتهاك بنود الاتفاق النووي، على أمل أن يؤدي ذلك إلى وضع ضغوط أكبر على القوى الغربية، حيث يلاحظ أن الاشارات القادمة من طهران توحي بأن الملالي سيواصلون الضغط والتهديد سعياً للوصول إلى مبتغاهم وظناً منهم بأن الرئيس بايدن لا يمتلك خيارات أخرى في التعامل مع هذا النظام، ويمكن الاستدلال على ذلك من تصريحات المرشد الايراني الأعلى علي خامنئي التي قال فيها إن بوسع بلاده رفع نسبة تخصيب اليورانيوم إلى 60 في المئة إذا أرادت لتقترب من نسبة النقاء البالغة 90 في المئة اللازمة لصنع قنبلة ذرية، وكأنه يؤكد انه منح الضوء الأخضر للتلميحات الصادرة عن بعض المسؤولين الايرانيين مؤخراً بشأن امكانية تخلى الملالي عن فتوى "تحريم" امتلاك سلاح نووي.
الواضح إذن أن الملالي يتعمدون تجاهل الاشارات الايجابية التي ترسلها الإدارة الأمريكية الجديدة باتجاههم، ويواصلون الابتزاز والمساومة، وهذا أمر متوقع تماماً، ولذا تحاول إدارة الرئيس بايدن الخروج من الفخ الذي ينصبه الملالي بإبداء صرامة محسوبة، حيث أكد المتحدث باسم الخارجية الامريكية مؤخراً أن الولايات المتحدة لن تنتظر إلى الأبد، قائلاً : "صبرنا ليس بلا حدود"، وهي إشارة إلى قرب نفاذ صبر الفريق الأمريكي الجديد، ولكنها قد تقابل في طهران بالارتياح لأنها تعني فاعلية الاستراتيجية الايرانية القائمة على اعتماد سياسة النفس الطويل سواء في مرحلة ماقبل التفاوض أو أثناء المفاوضات نفسها، وهو ماحدث تماماً من قبل حين استغرق الحوار حول الاتفاق النووي سنوات عديدة انتهت بحصول الملالي على مكاسب استراتيجية عديدة في إطار اتفاق ملىء بالثغرات فتح لهم نافذة فرص غير مسبوقة للتمدد جغرافياً وتوسيع نفوذهم الاستراتيجي اقليمياً.
الخلاصة أن إدارة الرئيس بايدن قد تجد نفسها مضطرة لمواصلة العمل وفق نهج الرئيس السابق دونالد ترامب بشأن العقوبات القصوى باعتبارها السبيل الأوحد للتعاطي مع التشدد الايراني والإصرار على شرط عودة الولايات المتحدة أولاً للاتفاق النووي، وفي ظل تمسك البيت الأبيض بالدبلوماسية كنهج وحيد للتعامل مع الملالي، مالم تنجح الجهود الأوروبية في اقناع الملالي باغتنام الفرصة وإبداء مرونة مع المقترح الخاص بالجلوس على مائدة التفاوض للبحث في صيغ مناسبة لانهاء أزمة الاتفاق النووي الايراني.