لا خيار أمام الولايات المتحدة سوى القبول بحضور شريكها الاستراتيجي الفرنسي، تحسباً لتمدد إيران استراتيجياً وفتح مجال حيوي امام النفوذ الروسي والصيني.
ليس سراً أن الولايات المتحدة الاميركية تعيد ترتيب أولويات اهتمامها الاستراتيجية عالميا، وأن استراتيجية آسيا أولا التي كانت جوهر الوثيقة الاستراتيجية للجيش الاميركي في القرن الحادي والعشرين، والتي أعلنها الرئيس باراك أوباما في بداية عام 2012 لا تزال صالحة لتفسير الكثير من التحولات الجارية في مواقف الإدارة الأميركية في منطقة الشرق الأوسط، حيث نصت تلك الوثيقة على أن "السياسة الأميركية ستشدد على أمن الخليج العربي بالتعاون مع دول مجلس التعاون الخليجي حيثما يكون مناسباً لمنع إيران من تطوير قدراتها النووية العسكرية والتصدي لسياساتها المزعزعة للاستقرار"، وهذا ما يحدث الآن تحديداً، وما فسره الرئيس أوباما في حديثه مع الكاتب الصحفي توماس فريدمان الشهر الفائت حين قال إن أولوياتنا في الشرق الأوسط لم تعد النفط بل تحقيق الاستقرار ووقف الاضطرابات، وهو مايفسر أيضا قول الرئيس اوباما في تقديم تلك الاستراتيجية المهمة منذ نحو ثلاثة اعوام حين قال "أمتنا في لحظة تحول".
لا شك أن جزءاً من هذا التحول كان الدعم الأميركي والحماس القوي لما يسمى بالربيع العربي والجماعات والتنظيمات التي امتطته من أجل اختطاف الحكم في دول عربية عدة، فالرئيس أوباما تحديدا مسكون بفكرة الضغط على حكومات الدول العربية من أجل إجراء إصلاحات داخلية، وهو في ذلك لا يختلف عن سلفه الرئيس السابق جورج بوش الابن سوى في آليات التعبير عن مكنون الذات وتطبيق تلك الأفكار، فأوباما ذكر في حديثه مع فريدمان أن حلفاء الولايات المتحدة الاميركية من العرب يواجهون تهديدات خارجية حقيقية لكنهم يواجهون أيضا تهديدات داخلية أخطر وحدد منها التهميش والبطالة وسوء التوظيف وغياب الحريات السياسية، وقال نصاً "أعتقدُ أن أكبر التهديدات التي يواجهونها (يقصد الحلف العرب السنة) ربما لن تأتي من غزو إيراني وإنما من مشاعر الإحباط والاستياء داخل بلدانهم، إنه حوار صعب، ولكنه حوار لا مناص منه". وإذا اضفنا إلى ذلك سعي البيت الأبيض الحثيث لتوقيع الاتفاق النووي النهائي مع إيران، تبدو المسألة واضحة وضوح الشمس، وأعني أن واشنطن تكاد أن تنفض يديها من معادلات الأمن الاقليمي في منطق الخليج العربي رغم رسائل الطمأنة التي تحاول بثها ليل نهار إلى حلفائها الخليجيين.
هنا تصعد فرنسا إلى مسرح الأحداث في منطقة الخليج العربي بقوة، إدراكا منها أن الولايات المتحدة الاميركية لم تعد تمتلك الرغبة ذاتها في السيطرة التامة على الأمور في هذه المنطقة، ففرنسا في هذا المجال لا تزاحم النفوذ الأميركي الذي يشهد إعادة هيكلة في هذه المنطقة الحيوية من العالم كما يعتقد البعض، ففرنسا هي شريك استراتيجي أطلسي للجانب الاميركي، وبالتأكيد فإن وجودها في الخليج العربي يحظى بموافقة من واشنطن، خشية تمدد إيران استراتيجيا بما يعنيه ذلك من فتح لمجال حيوي امام النفوذ الروسي والصيني.
فرنسا في منطقة الخليج العربي تدافع عن مصالح أوروبية بالأساس، وهذا أمر تدعمه الولايات المتحدة الأميركي وتوافق عليه،إذ أن أوروبا تستورد نحو 25% من إجمالي احتياجاتها النفطية من منطقة الخليج العربي، فيما تمثل أسواق هذه الدول متنفسا هائلا للاقتصادات الأوروبية التي لا تزال تعاني تبعات الأزمة المالية الخانقة المستمرة في تأثيراتها على دول منطقة اليورو، فضلا عن أن فرنسا تحديدا تضع علاقاتها مع دول مجلس التعاون في صدارة اهتماماتها منذ سنوات مضت، حيث تحتفظ بعلاقات تعاون عسكري قوية مع دولة الامارات العربية المتحدة وغيرها من دول مجلس التعاون.
كل ما سبق يفسر اهتمام فرنسا بتطورات الأوضاع في منطقة الخليج العربي، وحرص فرنسا الشديد والواضح على مشاركة دول "التحالف العشري" بسط الأمن والاستقرار في اليمن، حيث قام وزير الخارجية الفرنسي بزيارة إلى الرياض في الحادي عشر من ابريل الماضي ثم مشاركة الرئيس الفرنسي فرانسوا أولاند غير المسبوقة في القمة التشاورية الأخيرة لدول مجلس التعاون التي عقدت بالرياض مؤخراً.
البعض يحصر التحرك الفرنسي في دائرة الصفقات العسكرية، ولكن تحليل الشواهد التاريخية واستقراء دوائر الاهتمام الفرنسية عالميا يشير إلى أن هذا الاهتمام يتجاوز مسألة التسلح رغم أهميتها الفائقة بالنسبة للدول المصدرة للعتاد العسكري بشكل عام وفرنسا والولايات المتحدة وبريطانيا بشكل خاص. فرنسا تتحرك من واقع إدراكها احتمالية وجود فراغ قوة استراتيجي قد ينجم عن الانسحاب التدريجي للنفوذ الاميركي من منطقة الخليج العربي، ومن ثم تسعى إلى تكريس دورها في المعادلات الاقليمية الجديدة، لا سيما أن هذا الدور سيترجم لاحقا إلى نفوذ استراتيجي وشراكات تجارية وصفقات تسلح بدأت ارهاصاتها تلوح بالفعل عقب توقيع صفقة بيع مقاتلات رافال إلى دولة قطر وأخرى لتوريد أسلحة للجيش اللبناني بنحو ثلاثة مليارات دولار، فضلا عن صفقة اسلحة ضخمة محتملة تناقش بين الجانبين السعودي والفرنسي.
في مقابل هذا التحرك الفرنسي، فإن دول مجلس التعاون من جانبها تلعب ورقة الدور الفرنسي وتوظفه بشكل جيد في مواجهة المواقف الضبابية الاميركية التي تصب إجمالا في سلة المصلحة الايرانية، ومن ثم فقد بدأت واشنطن تستشعر خطورة المساحات الفارغة التي تخلفها ورائها في منطقة حيوية ظلت لعقود حكرا على النفوذ الاميركي.
العلاقات الخليجية مع القوى الكبرى إذاً في إطار تفاعلات مستمرة إقليميا ودوليا، والمؤكد أن قمة كامب ديفيد التي تعقد منتصف الشهر الجاري ستضع الكثير من الحروف على مسار هذه العلاقات في المدى المنظور، حيث تتيح هذه القمة فرصة حوار نادرة وجها لوجه بين القادة الخليجيين من جانب والرئيس الاميركي من جانب آخر.
ورغم التكهنات المثارة حول هذه القمة فإن نتائجها تبقى قيد النقاشات التي ستدور بداخلها، ولكن ذلك لا يحول دون وجود حقائق مؤكدة تسبق هذا الاجتماع المهم، أولهاأن دول مجلس التعاون لم تعد كما كانت في السابق، وأن توجهات واشنطن الجديدة في المنطقة قد أسهمت عن غير قصد في بلورة رؤى استراتيجية جديدة وتحول دول المجلس من سياسة رد الفعل إلى الامساك بزمام المبادرة وكسر حاجز الصمت والحذر الذي ظل لسنوات يحكم سياساتها حيال التهديدات والتحديات التي تطال الأمن الوطني في هذه الدول سواء من قوى إقليمية ذات أحلام وطموحات توسعية بأبعاد طائفية ومذهبية أو من جانب تنظيمات وجماعات هي في حقيقة الأمر وكلاء يعملون لمصلحة هذه القوى الاقليمية.
والحقيقة الثانية أن هناك لاعبين استراتيجيين آخرين يستعدون ـ او بدأوا بالفعل ـ في شغل مواقعهم التي توشك أن تفرغ جراء إعادة ترتيب اولويات الاهتمام الاميركية في منطقة الشرق الأوسط، وفرنسا في صدارة هؤلاء اللاعبين بما تمتلكه من علاقات قوية ومتنامية وشراكات استراتيجية مع دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، وبما لديها من اهتمام غير جديد بمجريات الأحداث في منطقة الشرق الأوسط بشكل عام، وهو اهتمام يؤهلها، دون غيرها أو بوجود قوى غيرها، لتثبيت معادل موضوعي جديد للدور الأميركي في منطقة الخليج العربي تحديدا والشرق الأوسط بشكل عام.