انشغل العديد من وسائل الاعلام ومراكز الدراسات والبحوث خلال الفترة الأخيرة بدراسة أبعاد ودلالات القمة المرتقبة في كامب ديفيد بين الرئيس باراك أوباما وقادة دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، حيث تبدو هذه القمة استثنائية بالفعل من جوانب وزوايا عدة، أولها انها الأولى من نوعها التي تعقد على هذا المستوى بين رئيس امريكي وقادة دول مجلس التعاون الست، وهذا بحد ذاته ذا دلالة نوعية لا يمكن غض الطرف عنها، فخلال مسيرة العلاقات الامريكية ـ الخليجية منذ عقود مضت، ظلت واشنطن تفضل العمل مع دول الخليج العربية بشكل فردي لا جماعي، بل إنها تحفظت على توقيع اتفاقية التجارة الحرة مع مجلس التعاون كتكتل اقتصادي موحد، وآثرت فتح باب مفاوضات مع كل دولة من دول المجلس على حدة. وظلت واشنطن تلعب على وتر تباينات واختلافات ـ عميقة أو طفيفة سياسية أو غير ذلك ـ بين دول مجلس التعاون، وتوظف هذه المعطيات جميعها من أجل تعظيم مصالحها وتحقيق أقصى مردود او عائد استراتيجي واقتصادي ممكن مع مجمل المعطيات الاقليمية. وبالتالي عندما تقرر الولايات المتحدة الأمريكية فتح باب حوار جماعي مع قادة دول مجلس التعاون فإن هذا يعني بالضرورة وبالتبعية أن مياها جديدة قد جرت في مسار العلاقات بين الجانبين أو في المشهد الاقليمي إجمالاً، بمعنى أن الواقع الاقليمي يشهد تغيرات حيوية لا تتعلق فقط ـ كما يقول بعض الخبراء والمحللين ـ بتحولات السياسة الأمريكية وتبدل أولوياتها الاستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط، وهذا صحيح بطبيعة الحال، ولكنها ترتبط أيضا بحدوث تحولات استراتيجية نوعية موازية في نمط إدارة السياسات الخليجية ذاته، وخروج هذه السياسات من مربع رد الفعل إلى الفعل، والإمساك بزمام المبادرة للدفاع عن المصالح والسعي إلى تحقيق الأهداف.
لعل عملية "عاصفة الحزم" تعد مثالاً جيداً لتوجه خليجي جديدة في إدارة العلاقات والأزمات الاقليمية، ولكن هذا التوجه لم يكن أولى خطوة من نوعها على هذا الصعيد، خصوصا أن الدعوة إلى قمة كامب ديفيد كانت تالية له او متزامنة معه تقريبا وبالتالي يصعب القول بأن هذا المعطى الاستراتيجي هو صاحب البصمة الرئيسية أو العامل الأساسي وراء الدعوة الأمريكية لهذه القمة، فهناك خطوات خليجية مؤثرة سبقت هذه العملية التاريخية ودفعت باتجاه إعادة التفكير في اتجاهات السياسة الخارجية الأمريكية حيال دول مجلس التعاون، ومنها موقف كل من دولة الامارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية تجاه ماحدث في مصر الشقيقة منذ عام 2011 وتحديدا عقب سيطرة جماعة الاخوان المسلمين على السلطة في مصر ومارافق ذلك من بروز خطر انهيار دولة بحجم وثقل مصر الاستراتيجي وما كان يمكن أن يسفر عن ذلك من أخطار وتداعيات باهظة التكاليف على النظام الاقليمي العربي بشكل عام وعلى أمن دول مجلس التعاون وشعوبها بشكل خاص. والمؤكد أن موقف دولة الامارات والسعودية تجاه الأوضاع في مصر لم يكن يروق للجانب الامريكي الذي كان يرى في الاخوان المسلمين حليفا محتملا قادرا على تحقيق الأهداف والمصالح الامريكية في الشرق الأوسط، وبالتالي اندفعت واشنطن نحو إعادة قراءة المتغيرات الجديدة واستيعاب مابرز من أدوار لدول حليفة ـ وهي كذلك بالفعل ـ ولكنها لم تصمت حين انتهجت الولايات المتحدة خطا مضاداً لمصالح هذه الدول وأهدافها الاستراتيجية.
صحيح أن قمة كامب ديفيد تركز على ملفات مهمة في مقدمتها الاتفاق النووي النهائي مع إيران وبث رسائل طمانة للحلفاء الخليجيين، ولكنها أيضا ستركز على إعادة هيكلة الترتيبات الأمنية في الخليج العربي وفقا للمعطيات الجديدة، وبالتالي فالقمة تمثل فرصة سانحة لدول مجلس التعاون لتكريس واقع اقليمي جديد يستوعب ماتحقق من معطيات على الأرض، بحيث تعيد هذه القمة رسم المعادلات الأمنية وانماط التحالف وفق وجهات نظر كل من إيران ودول مجلس التعاون ولا تأخذ بالاعتبار وجهة النظر الإيرانية التي نقلت بالفعل إلى واشنطن عبر عشرات الجلسات التفاوضية التي تمت بشان البرنامج النووي الايراني طيلة الأشهر بل والسنوات الماضية.
هذه القمة استثنائية أيضا لأنها تكرس واقع اقليمي جديد مفاده أن دول مجلس التعاون لاعب اقليمي محوري في بناء وهندسة التحالفات الدولية، وأن أي حسابات للقوى الكبرى في منطقة الخليج العربي لابد وأن تتم عبر بوابة دول مجلس التعاون، وهي أيضا إعلان بانتهاء مرحلة زمنية ظلت هذه الدول في موقف المراقب أو المتابع لما يدور من حولها بحكم محدودية قوتها العسكرية ومقدرتها بالتالي على التحكم بايقاع المناورات الاستراتيجية الجارية من حولها.
لا أحد يختلف على أن دولة الامارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية باتا لاعبين أساسيين في معادلات الأمن الاقليمي، وأنهما تمثلان طوق الانقاذ الوحيد لما تبقى من مكتسبات الشعوب العربية وحقها في الامن والاستقرار، كما أن الدولتين بات لهما من الحضور السياسي الدولي والاقليمي مايجعلهما قادرتان على أن يكون كتلة صلبة يمكن بناء نظام اقليمي عربي جديد عليها، وهذا ما يمكن استخلاصه من تصريحات صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، أثناء استقباله نائب رئيس الجمهورية رئيس الوزراء بالجمهورية اليمنية، والتي قال فيها «إننا ومن واقع عروبتنا علينا جميعاً أن ندرك أن صيانة الفضاء العربي بعيداً عن التدخلات والمطامع هو مكسب مشترك علينا أن نسعى إليه مجتمعين».
الواقع الاقليمي الجديد ينطلق من اعتبارات عدة منها وجود دول مجلس التعاون كلاعب رئيسي فاعل وحيوي وليست رقما هامشيا كما كان يردد بعض المحللين في تصوراتهم لواقع المنطقة وتداعيات الأحداث عقب توقيع الاتفاق النووي الايراني، وهنا استطيع القول أن هؤلاء المحللين انطلقوا من معطيات استراتيجية قديمة ولم يجيدوا قراءة ماحدث منذ عام 2011، ولم يأخذوا باعتبارهم التحولات الحاصلة في إدارة السياسة الخارجية لدول مجلس التعاون وتحولها من رد الفعل إلى مربع الفعل والمبادأة، ماتسبب في إرباك سياسات دول اقليمية مثل إيران وتركيا، وسقوط مشروعاتهما التوسعية، فالأولى كانت تطمح إلى إكمال طوق السيطرة والنفوذ الشيعي وتحويله من هلال إلى دائرة مغلقة تحكم سيطرتها على دول مجلس التعاون وتخنقها استراتيجيا، فيما كانت تسعى أنقرة إلى "عثمنة" جديدة بقيادة اردوجان الذي حلم باستعادة مجد الامبراطورية العثمانية واستعادة زمام القيادة في العالم الإسلامي السني!.
قمة كامب ديفيد تدشين لمرحلة جديدة في العلاقات الاقليمية والدولية، تلعب فيها دول مجلس التعاون دورا حيويا ليس فقط في مواجهة إيران ولكن في تحديد بوصلة القرار في منطقة الشرق الأوسط بشكل عام.
شؤون دولية
قمة كامب ديفيد... تحولات خليجية
- الزيارات: 971