من المنتظر أن يصوت الكونغرس خلال الأسابيع المقبلة على القرار بشأن إشكالية الاتفاق النووي الإيراني غير القابلة للمواءمات السياسية، ولا تخضع سوى للمعادلة الصفرية، بمعنى أن خسارة طرف لا بد أن تعني بالضرورة مكسبا للطرف الآخر، فلا مجال للتوافق الذي تمليه قواعد اللعبة السياسية التقليدية.
هناك معركة مرتقبة في الكونغرس الأميركي حين يصوت الأعضاء على الاتفاق النووي الإيراني خلال شهر سبتمبر المقبل، وقد يتصور البعض أن هذه المعركة تتعلّق فقط بانتصار الرئيس أوباما وفريقه الرئاسي، أو انتصار الكونغرس بأغلبيته من الجمهوريين وحلفائهم في هذه المعركة.
الصورة ربما تبدو أوسع من ذلك، فوكالات الأنباء العالمية تحصي عدد مواقف أعضاء الكونغرس واتجاهاتهم حيال الاتفاق بشكل يومي. كما احتفى البيت الأبيض، مؤخرا، بوصول عدد مؤيدي الاتفاق من أعضاء مجلس الشيوخ إلى 28 عضوا، ما يعني أنه لم يتبق سوى ستة أصوات كي يمكن للرئيس باراك أوباما، استخدام “الفيتو” الرئاسي لتجاوز رفض محتمل من المجلس للاتفاق النووي. حيث يحتاج الرئيس إلى أصوات ثلثي مجلسي النواب والشيوخ كي يتصدى لمحاولات الجمهوريين عرقلة الاتفاق.
أما في مجلس النواب، فيحتاج أوباما لتأييد 146 عضوا على الأقل لتأمين تمرير الاتفاق في المجلس، وهناك نحو 69 من أعضاء مجلس النواب يؤيدون الاتفاق بالفعل، والتنافس يدور غالبا حول استقطاب مواقف نحو 140 عضوا لم يعلنوا مواقفهم بشكل نهائي من بين 435 عضوا، هم إجمالي أعضاء مجلس النواب الأميركي.
ما يحدث في أروقة السياسة الأميركية خلال الفترة الراهنة، ويدور في دهاليزها، جدير بالمتابعة والبحث والتحليل كونه يسلط الضوء على ديناميكيات السياسة الأميركية ومحركاتها وأدواتها وكواليسها. ويكفي أن بعض المعلقين الأميركيين يعتبرونه واحدة من المعارك السياسية المحتدمة لجماعات الضغط “لوبي”، فضلا عن كونه معركة موازية على صعيد استقطاب مواقف الرأي العام الأميركي حيال الاتفاق. والواضح أن أوباما لا يخوض المعركة منفردا بل يشاركه فريقه الرئاسي، خصوصا وزير خارجيته جون كيري، وعدد كبير من المنظمات الأميركية، في مواجهة الجمهوريين، وبجانبهم اللوبي الأشهر في الولايات المتحدة وهو لجنة الشؤون العامة الأميركية ـ الإسرائيلية (ايباك) التي استنفرت طاقاتها الدعائية والسياسية والمالية للدفع باتجاه رفض الاتفاق على المستويين البرلماني والشعبي.
موقف بعض الدول العربية المرحب بالاتفاق مع التشديد على تنفيذ بنوده والتزام طهران بها موقف عقلاني
إشكالية الاتفاق النووي الإيراني أنه غير قابل للمواءمات السياسية، ولا يخضع سوى للمعادلة الصفرية، بمعنى أن خسارة طرف لا بد أن تعني بالضرورة مكسبا للطرف الآخر، فلا مجال للتوافق الذي تمليه قواعد اللعبة السياسية التقليدية. وتأثير نتائج هذا التصويت، سلبا وايجابا، في انتخابات الرئاسة الأميركية المقبلة عام 2016 يلعب دورا بارزا في تسخين الأجواء ودفع الطرفين إلى بذل أقصى طاقاتهما الإقناعية والدعائية والاتصالية من أجل كسب المعركة. وليس أدل على ذلك من السعي الحثيث للرئيس أوباما لإقناع عدد من أعضاء الكونغرس خلال عطلته الأخيرة، التي قضى أوقات كبيرة منها في التواصل مع بعض النواب.
توابع ثانوية مهمة
رفض الاتفاق في الكونغرس، حتى مع استخدام “الفيتو” الرئاسي وتمرير الاتفاق، سيكون هزيمة سياسة لأوباما، ولها توابعها بالطبع على الديمقراطيين، وستكون بالمقابل انتصارا سياسيا ليس للجمهوريين فقط بل لإسرائيل وجماعات الضغط المناوئة للاتفاق النووي، وفي مقدمتها “ايباك”. ولكن المعركة بحد ذاتها لها توابع ثانوية مهمة ربما لم ينتبه إليها كثيرون، وفي مقدمتها أن الصراع الشرس من أجل الدفاع عن الاتفاق يفرض على الديمقراطيين مراقبة تنفيذ بنود الاتفاق النووي مع إيران بكل صرامة وحزم، حتى لو اقتضى الأمر تصعيدا عسكريا ضد إيران في حال أي انتهاكات لبنوده.
وهذا الأمر يصب في مصلحة دول الخليج العربية التي تشعر بالقلق إزاء نتائج هذا الاتفاق، بمعنى أن الرقابة الداخلية الأميركية ومتابعة تنفيذ التعهدات التي قطعها الرئيس الأميركي على نفسه طيلة الفترة الماضية، والتي ترتبط جميعها بفكرة قدرة إيران على امتلاك سلاح نووي، ستخضع للرقابة والمحاسبة في الداخل الأميركي قبل حلفاء واشنطن وشركائها في المنطقة.
تأثير نتائج هذا التصويت، سلبا وايجابا، في انتخابات الرئاسة الأميركية المقبلة عام 2016 يلعب دورا بارزا في تسخين الأجواء
من المفارقات أيضا أن هذا الاتفاق يضع بعض الغرماء في مربع مصالح واحد، فهو يضع المتشددين الإيرانيين على الأرضية ذاتها التي يقف عليها الجمهوريين الأميركيين، فمحافظو إيران والحرس الثوري المتضرر والناقد الأهم للاتفاق يراهنون على نجاح الجمهوريين في إجهاضه ويترقبون ذلك.
في مواجهة القادم في معركة الكونغرس، تطرح عدة سيناريوهات:
* السيناريو الأول، وهو الأكثر ترجيحا، ينطلق من تمرير الاتفاق برفض ثلثي الأعضاء وموافقة الثلث الآخر، ولجوء أوباما في هذه الحالة إلى استخدام “الفيتو” الرئاسي وتمرير الاتفاق بشكل دستوري رغم رفض الجمهوريين.
والمنطقي في هذا الحالة أن أوباما إذا كان يريد دخول التاريخ وربط اسمه بإنجاز سياسي ضخم، فإنه لن يغامر في المقابل بأن تكون محاولته على هذا الصعيد بوابة ـ أو بالأدق ـ ورطة تربط اسمه ـ تاريخيا ـ بانتكاسة كبيرة للسياسة الخارجية الأميركية في حال نجاح إيران في خداع واشنطن والإفلات بقنبلة نووية تخلط أوراق إسرائيل وتربك حسابات الجميع في الشرق الأوسط.
وبالتالي فلن يكون أوباما خلال الفترة المتبقية من رئاسته “بطة عرجاء” في التعامل مع إيران تحديدا، وسيسعى إلى فرض رقابة مشددة على تنفيذها للاتفاق، لاسيما أن المسألة لا تتعلق بتاريخه فقط بل بفرص الحزب الديمقراطي نفسه في الانتخابات الرئاسية المقبلة. كما لا يجب أن ننسى أن هناك عددا من النواب الديمقراطيين قد خرجوا ـ حتى الآن ـ عن قاعدة الالتزام الحزبي وانضموا إلى الجمهوريين في رفض الاتفاق، ما يلقي بمسؤولية وضغوط كبيرة على البيت الأبيض لإبداء الحرص والحذر. ولا يجب أيضا أن ننسى أن الأمر برمته ذي صلة وثيقة بأمن إسرائيل، والبيت الأبيض قدم تعهدات دقيقة في هذا الشأن، ولن يفرّط فيها، كون أي تهاون أو قصور سيوظف جيدا في الاستحقاقات الانتخابية المقبلة.
* السيناريو الثاني يتعلق بفشل أوباما في تأمين ثلث الأصوات في مجلسي الكونغرس، وبالتالي عدم مقدرته على استخدام “الفيتو” الرئاسي، بما يعني ذلك من فشل نهائي للاتفاق، وهذا السيناريو غير مرجح في ظل الشواهد القائمة حتى الآن.
* السيناريو الثالث أن يخفق الجمهوريون في جمع غالبية الثلثين اللازمة لإبطال الاتفاق في الكونغرس، ويتم تمرير الاتفاق دستوريا، وهذه الصيغة هي الأمثل بالنسبة إلى البيت الأبيض ولكن فرص تحققها تبدو غير واضحة.
أوباما لن يكون خلال الفترة المتبقية من رئاسته "بطة عرجاء" في التعامل مع إيران تحديدا، وسيسعى إلى فرض رقابة مشددة على تنفيذها للاتفاق
الموقف العربي
موقف بعض الدول العربية والخليجية المرحـب بالاتفاق مع التشديد على تنفيذ بنوده والتزام طهران بها تماما هو موقف عقلاني، فالمعطيات جميعها تؤكد أن الولايات المتحدة ستكون رقيبا على نفسها في مسألة التنفيذ وليس هناك مجال كبير للتشكيك في ذلك بحكم قواعد اللعبة السياسية في الداخل الأميركي.
الاتفاق النووي الإيراني الذي وقع قبل نحو عام ونصف فقط من انتخابات الرئاسة الأميركية المقبلة، يثير أيضا تساؤلات حول مدى التزام الرئيس الأميركي القادم به، خصوصا إذا جلس على كرسي البيت الأبيض أحد المرشحين الجمهوريين الحاليين، حيث يتبارى هؤلاء المرشحون في تفنيد خطر الاتفاق، فيما ذهب بعضهم إلى تقديم وعود بإلغائه، بل وصفه المرشح الجمهوري الأبرز جيب بوش بأنه “مهزلة”.
“خطاب” المرحلة الانتخابية خاضع لحسابات واعتبارات دعائية وانتخابية محضة، ولكن الجمهوريين بتاريخهم ومواقفهم وموروثهم السياسي، من الصعب أن يقفوا على أرضية واحدة مع إيران، ما يجعل مصير الاتفاق واحتمالات انهياره ـ في حال التصديق عليها نهائيا ـ مثار تساؤلات مشروعة ومقلقة في آن واحد.