الهند لا تخوض علاقاتها بمنظور أيديولوجي بل تنظر بمنظور استراتيجي لمصالح شعبها، والإمارات تشاطر الهند طموحاتها في بناء عالم أفضل وخوض غمار التنافسية باقتصاد طموح.
كان لافتا للخبراء والمتخصصين أن يتصدر حديث الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، عن قيم التسامح والتعايش وتشجيع التفاهم والحوار والانفتاح والتقارب بين الشعوب، عقب لقائه رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، الأمر الذي يعكس عمق اهتمام دولة الإمارات العربية المتحدة بهذه المنظومة القيمية في علاقاتها وتحركاتها الخارجية، ولا سيما تجاه الهند التي تمثل بحد ذاتها نموذجا في “التعايش” الإنساني والحضاري والديني والعرقي والسياسي، بكتلتها السكانية الضخمة ومقدرتها الفريدة على صهر تنوعات تقترب تدريجيا من المليار ونصف المليار من البشر.
لاشك أن الإمارات والهند يجمعهما تاريخ طويل من التواصل الذي يمزج بين “التجاري” و“الإنساني” و“الثقافي”، ويضفي على العلاقات بينهما نوعا من الخصوصية والتفرد، ويدفع دوما باتجاه العمل على تعزيز التعاون وتطويره وفتح آفاق جديدة له. ولعل الأرقام تقدم برهانا قويا على حجم التواصل والتلاقي بين الإمارات والهند، وتكفي الإشارة إلى بعض الإحصاءات الرسمية على هذا الصعيد، ومنها وجود نحو خمسين ألف شركة هندية تعمل في دولة الإمارات العربية المتحدة، ونحو 950 رحلة جوية بين البلدين أسبوعيا، أي بمعدل 135 رحلة جوية يوميا بين البلدين، وهذه معدلات كبيرة تعكس حجم وأعداد المسافرين من مطارات الهند إلى المطارات الإماراتية يوميا والعكس، بينما تجد شركات إماراتية ضخمة مثل إعمار العقارية، وموانئ دبي العالمية، وشركة الإنشاءات البترولية الوطنية، وشركة أبوظبي الوطنية للطاقة “طاقة”، وجهاز أبوظبي للاستثمار وشركات أخرى عدة، نطاقات وفرصا واسعة للعمل والاستثمار والانتشار في السوق الهندي بالغ الضخامة، بينما يبلغ حجم التبادل التجاري نحو الهند ستين مليار دولار، ويستفيد الاقتصاد الهندي من نحو 8 مليارات دولار سنويا تمثل قيمة تحويلات العاملين الهنود في دولة الإمارات حسب إحصاءات عام 2012.
زيارة ناريندرا مودي رئيس الوزراء الهندي إلى الإمارات مؤخرا هي الزيارة الأولى من نوعها لرئيس وزراء هندي للدولة منذ زيارة رئيسة الوزراء الراحلة أنديرا غاندي عام 1981، وهذا الأمر بحد ذاته يبدو لافتا للانتباه في ضوء استمرارية العلاقات بين البلدين وتناميها طيلة تلك الفترة من دون انقطاع بحكم الترابط التاريخي بين البلدين، حيث كانت الهند في قلب اهتمام قيادة دولة الإمارات العربية المتحدة منذ بداية تأسيسها عام 1971، حيث قام المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان بزيارة الهند في يناير عام 1975، كما قام الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي بزيارات عدة خلال تلك الفترة.
الهند واحدة من القوى الدولية الصاعدة، التي تمتلك ثقلا استراتيجيا في النظام العالمي القائم، وتمتلك عمقا تاريخيا وأخلاقيا وسياسيا يؤهلها للعب دور أوسع على الصعيدين الإقليمي والدولي. ويمكن القول إن التعايش المشترك هو إحدى نقاط الجاذبية في الحالتين الإماراتية والهندية، فتعايش عشرات الملايين من الهنود من مختلف الديانات والأعراق، يعد أحد المفاتيح لفهم الحالة الهندية، بل سر انطلاقة الهند التنموية وتنامي أدائها الاقتصادي، وبالقدر ذاته فإن الإمارات تبذل جهودا ملموسة ومتواصلة على مستويات مختلفة، سياسية وثقافية وتشريعية وتعليمية واجتماعية، من أجل تكريس قواعد نموذجها وتثبيت أسس التعايش ونشر التسامح والوسطية والاعتدال وقبول الآخر، ليس في داخل الدولة فقط، بل على المستويين الإقليمي والدولي.
واعتقد أن الهند، عضو مجموعة “بريكس”، باتت تمتلك من الإمكانيات والقدرات الذاتية ما يؤهلها لشغل موقع أكثر تميزا ضمن تفاعلات القوى الدولية في القرن الحادي والعشرين، حيث باتت الهند وإحدى قلاع تكنولوجيا المعلومات في العالم، كما تتنامى مقومات قوتها الشاملة بشكل واضح خلال السنوات الأخيرة، وبالتالي يصبح تعزيز العلاقات الإماراتية معها ملفا حيويا، لاسيما أن الدبلوماسية الهندية تمتلك موروث من احترام القوانين والأعراف الدولية، وتنظر إلى العالم من حولها وفق منظور حضاري خال من الاستعلاء والرغبة في التوسع والسيطرة وبسط النفوذ على خلاف قوى إقليمية أخرى مثل إيران وتركيا.
ومن يتابع السياسة الخارجية الهندية يدرك أن رئيس الوزراء الحالي يمتلك قدرة هائلة على الانطلاق بعلاقات بلاده الخارجية، ويتبنى رؤية قائمة على الثقة في إمكانيات الهند وقدرتها على الانخراط في النظام العالمي دون ارتهان لقيود الماضي وارتباطاته الأيديولوجية والسياسية، ويتحرك بحرية واضحة بين القوى الكبرى متخذا مصلحة الهند بوصلة للتوجيه والإرشاد، ما جعل نيودلهي مؤخرا، قبلة اهتمام صانعي سياسات القوى الإقليمية والدولية، الأمر الذي يحقق أحد أبرز أهداف زعيم الهند التاريخي جواهر لال نهرو الذي كان يدرك أهمية بلاده على خارطة العالم، وسعى لترجمة هذه الأهمية عبر حركة عدم الانحياز في ستينات القرن العشرين.
أحد المشتركات البارزة بين الإمارات والهند هو أن الدولتين تشعران بخطر التطرف والإرهاب على مسيرة الأمن والاستقرار العالمي، وتتصديان لهذا الخطر بكل جرأة ومن دون مواربة. وثمة مشترك آخر هو القيم والأطر الحضارية والإنسانية التي تحكم توجهات البلدين السياسية، فقيم الشيخ زايد في الإمارات تضاهيها قيم الزعيم التاريخي نهرو، بل إن البلدين قد اتجها إلى التركيز على المصالح الاقتصادية في علاقاتهما الخارجية بشكل مغاير نسبيا لما كان سائدا في هذه العلاقات خلال حقب سابقة، وبما يجسد تركيز أكبر على الاستفادة من متغيرات الواقع الراهن في الاقتصاد العالمي، الذي يوفر فرصا واعدة بقدر ما يفرز تحديات صعبة، الأمر الذي يتطلب تخطيطا دقيقا لتحركات الدول وعلاقاتها مع محيطها الجيوسياسي القريب والبعيد على حد سواء، حيث خرجت الهند من عباءة الاشتراكية الضيقة لتنطلق في منافسة مع اقتصاديات السوق الحر بسلسلة من اتفاقيات الشراكة الاستراتيجية عبر كتلة “آسيان” وغيرها من التكتلات الاقتصادية والدولية الكبرى، التي منحت الاقتصاد الهندي دفعات قوية.
وإذا كانت الهند لم تعد تنظر من منظور أيديولوجي محدد لعلاقاتها الدولية، بل باتت تنظر غربا وشرقاً على حد سواء وفق منظور استراتيجي لمصالح الشعب الهندي، فإن الإمارات تشاطر الهند طموحاتها ورغبتها في بناء عالم أفضل وخوض غمار التنافسية في القرن الحادي والعشرين باقتصاد قوي طموح، ومن هنا تبدو المشتركات إضافة تعزز التاريخ وتضيف قيمة نوعية لعلاقات الإمارات والهند، وتجعل من زيارة رئيس الوزراء الهندي إلى الإمارات نقلة نوعية حقيقية في ملف علاقات البلدين.