لا خلاف على عمق التغيرات والتحولات التي أحدثتها التقنيات الحديثة في وسائل الاتصال، ليس فقط لأنها أنتجت متغيرات جديدة طرأت على أجواء الاعلام بظهور الاعلام الجديد بوسائله المختلفة، بل أيضا لأنها دفعت الاعلام التقليدي إلى خيار صفري: إما التطور ومسايرة العصر أو الاندثار.
ومن بين هذه التغيرات التي يصعب حصرها في مقال أو حتى سلسلة مقالات، هذا الالتقاء بين متغيرات ثلاث هي التقنيات والاعلام والفكر المتطرف، وهو مزيج لا يقل في خطورته على أسلحة الدمار الشامل، بل يعد بمنزلة أسلحة الدمار الشامل الحقيقية في القرن الحادي والعشرين.
يؤرخ للاعلام الجماهيري بشكل واقعي بظهور التلفزيون في النصف الأول من القرن العشرين، فالاذاعة ومن قبلها الصحافة لم يكن لهما التأثير الهائل لهذا الجهاز السحري، الذي أوجد ثقافة الصورة بما لها من مقدرة على التأثير والاستقطاب وتجييش الشعوب وراء أفكار وقيم ثقافية محددة عبر الأدوات الدرامية والفيلمية المتحركة وغيرها، وقد ازدادت فاعلية الاعلام وترسخت عقب ظهور الانترنت والدمج الهائل بين الوسيلتين الأخطر في التاريخ البشري حتى الآن، وتدشين حقبة الانتقال الحر للمعلومات بالتوازن مع الانتقال الحر للسلع والبضائع، ومن ثم ظهور صناعة ضخمة ذات اعتمادية عالية لدى الاقتصادات المتقدمة هي صناعة المعرفة والمعلوماتية.
هذه الصناعة الضخمة لم تستفد منها اقتصادات الدول فقط بل استفادت منها أيضا تنظيمات الارهاب والتطرف في العالم أجمع، وحققت مبدأ عولمة الفكر الارهابي، وتحولت كثير من مواقع الانترنت إلى ساحات تجنيد وتدريب واستقطاب لهذه التنظيمات، التي نقلت الكثير من مقارها من العالم الحقيقي في غابات تورا بورا وكهوف أفغانستان إلى الفضاء السيبراني، وانتقت لنفسها مقار افتراضية يصعب في كثير من الأحيان ملاحقتها ومطاردتها من جانب الأجهزة المعنية في مختلف الدول.
لم يعد الاعلام في عصر العولمة مجرد ساحة للترفيه أو التجييش السياسي، بل بات يضم ميادين للتدريب على القتل وسفك الدماء، وبات من السهل على شاب في بدايات العمر يعيش في أقصى جغرافيا أي دولة عربية أو اسلامية أو غيرهما ايجاد طريقة لصناعة متفجرات بدائية تم نشرها عبر جهاز كمبيوتر لإرهابي يعيش في دولة أوروبية أو غربية أو العكس!
ببساطة، تحول الاعلام إلى أداة للقتل والتحريض وسفك الدماء في كثير من الأحيان، سواء بشكل مباشر عبر منافذ التحريض الأيديولوجي على وسائل التواصل الاجتماعي المتعددة، والفضائيات الطائفية والمذهبية التي تحض ليل نهار على الصراع بين الحضارات والأديان، وحتى داخل الدين الواحد كما هو حاصل بين بعض الفضائيات السنية والشيعية. وفي ذلك، يقول أحد خبراء الاعلام الغربيين أن الاعلام يتولى استكمال المهمة التي يبدأها الارهابيون، وكان يشير في ذلك إلى نشر فيديوهات الذبح والقتل الداعشية عبر موقع "يوتيوب" أو عبر الفضائيات الاخبارية، ويقصد أن الاعلام يتولى نشر رسالة التخويف والارهاب ونشر الذعر التي يريد الارهابيون بثها بين الشريحة الأكبر من البشر في العالم!
والحقيقة أن هذه نقطة جدال كبيرة بين خبراء الاعلام وعلم النفس والاجتماع والقانون أيضا، فالبعض يرى أن تبني مواثيق تلزم الجميع بعدم تداول هذه المواد العنفية وتحظرها يمثل حجب للمعلومات وحق الجمهور في المعرفة حتى ولو كان الأمر يتعلق بمعلومات من هذا النوع، وعلى الجانب الآخر يعتقد فريق آخر أن هناك مسؤولية أخلاقية حيال سياسة الباب المفتوح في نشر المعلومات وتداولها، وأن هذه المسألة ينبغي تقييدها بمعايير وقواعد محددة كي لا ينساق العالم وراء أهداف التنظيمات المعادية للحضارة الانسانية والبشرية والأديان.
في كل الأحوال، فإن مجرد اثارة هذه النقاشات هو بحد ذاته أمر جيد، فالصمت في مثل هذه الحالات هو الخيار الأسوأ، والنقاشات حتماً ستفضي إلى طرح حلول وبدائل وخيارات تناسب جميع ألوان الطيف المجتمعي في دول العالم كل حسب ظروفه ومستويات الوعي المجتمعي والتعليمي والثقافي السائدة لديه.
ما يهمني في هذا النقاش أن الخليط أو هذا المزيج المعقد، الذي يجمع بين التقنيات الحديثة وعلوم الاعلام والاتصال الجماهيري والفكر المتطرف قد أسهم بقوة في ايجاد تحديات وتهديدات استراتيجية لم يكن يدركها مخططي السياسات وصانعوها حين تحمسوا لموجات العولمة العاتية، حيث انصب معظم التفكير على جوانب وأبعاد مثل حرية التجارة والتبادل الثقافي والقيمي، وركزت الولايات المتحدة من جانبها تحديداً على فكرة "نمذجة العالم" عبر تكريس القيم الثقافية السائدة في النموذج الأميركي التي تعرف كثيراً بـ "ثقافة ماكدونالدز"، ونجحت من خلالها وعبر توظيف الاعلام ووسائل الاتصال الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي في تجاوز ما صنعته الجغرافيا، أو الأسوار التقليدية عاتية ظلت لقرون وعقود تحجب شرق العالم عن غربه.
ولا شك أن لهذا التواصل الانساني غير المسبوق خصائص ايجابية ومزايا عديدة، فهدمت الأسوار وانهارت تأثيرات الجغرافيا، ولكن جاء الارهاب وانتشار الفكر الارهابي ليشير إلى أحد "العوارض الجانبية" لثورة الاتصال والمعلوماتية، ولكن مايلفت الانتباه هنا أن الدول والمناطق الأقل استفادة من مداخيل هذه الثورة على المستويات الاقتصادية والتجارية، هي الأكثر تأثراً بأعراضها الجانبية غير المرغوبة! ويقول بعض الخبراء أن السبب في ذلك يتمثل في أن المجتمعات الغائبة عن سباق المعرفة ستخوض بالتبعية سباقاً مضاداً، هو سباق الجهل وسوء استغلال طفرة التقدم التقني، وهو تحليل لا يخلو من الصحة تماماً، ولكنه يلقي باللوم والمسؤولية على الدول والحكومات التي تسود فيها ظاهرة الارهاب والتطرف من دون الاشارة إلى مسؤولية الدول المتقدمة في تقديم الدعم والمساندة التكنولوجية لهذه الدول في تحصين مجتمعاتها وحمايتها من فوضى التطرف السيبراني.
في كل الأحوال نحن نعيش عصر الأخطار والتحديات والتهديدات، ولا شك أن السنوات المقبلة حبلى بالمزيد في ظل طفرات التقدم الهائلة في تقنيات الاتصال والتواصل، وفي ظل الانتشار الفسيفسائي اللافت لتنظيمات التطرف والارهاب.