لم أكتب عن قانون “تطبيق العدالة ضد داعمي الإرهاب” الذي يعرف اختصارا بـ“جاستا”، والذي يتيح لأهالي ضحايا اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر 2001 رفع قضايا تعويض ضد المملكة العربية السعودية بتهمة قتل أميركيين من خلال ما يعرف بدعم المتورطين في تنفيذ هذه الاعتداءات. لم أكتب حتى يتبين لي، ولغيري من الباحثين والمراقبين، الخيط الأبيض من الخيط الأسود في مسارات هذه القانون، والآن وقد أُقرّ هذا القانون المثير للجدل منذ فترة، وفشلت إدارة الرئيس باراك أوباما في التصدي له، وتحول من ثم إلى موضوع للهجوم والنقد والتحليل الغث والسمين، اعتقد أن الأمر بحاجة إلى نقطة، بل نقاط نظام عدة.
خطر هذا القانون لا يقع على السعودية وحدها كما يعتقد معظم الكتّاب والمحللين، بل إن تأثيره الاستراتيجي يتجاوز فكرة العلاقة بين دولتين، ويطال العلاقات الدولية في جذورها، حيث يمثل هذا القانون انتهاكاً واضحا لمبدأ الحصانة السيادية للدول، الذي يعد أحد ركائز العلاقات الدولية منذ صلح وستفاليا الشهير عام 1648، ومن قبله بمراحل زمنية تشريعات روما القديمة، حيث ينص ميثاق الأمم المتحدة على أن ممتلكات الدول وحصانتها من الولاية القضائية مقبولتان بوجه عام، كمبدأ من مبادئ القانون الدولي العرفي، كما ينص ميثاق الأمم المتحدة على أن “الهيئة” (الأمم المتحدة) تقوم على مبدأ “المساواة في السيادة” بين جميع أعضائها، ومن ثم فمن الثابت أنه لا ولاية قضائية لدولة على دولة أخرى عضو في المنظمة.
اللافت في الأمر أن الولايات المتحدة ذاتها قد دافعت عن مبدأ الحصانة السيادية للدول في مواقف تاريخية عدة سابقة، منها الدعوى القضائية التي رفعت ضد الولايات المتحدة في إيطاليا بسبب نشاط وكالة الاستخبارات الأميركية هناك، حيث رضخت الدعوى في الأخيرة لمبدأ الحصانة السيادية للدول، كما أنه قياساً على العديد من القضايا الدولية المشابهة، تعتبر الولايات المتحدة أكثر الدول استفادة من مبدأ الحصانة السيادية للدول.
الواضح أن المشروع الأميركي في مجلس الكونغرس قد ركز جل اهتمامه على مطالب عائلات ضحايا اعتداءات 11 سبتمبر متجاهلا الأبعاد الكلية الشاملة للقانون، وعلى رأسها، بطبيعة الحال، التأثير السلبي له في العلاقات الدولية بشكل عام، وهي مسألة بالغة الحساسية بالنسبة إلى الولايات المتحدة لاعتبارات عدة، في مقدمتها أنها الدولة القائدة للنظام العالمي الجديد، والتي يفترض أنها تحرص على استقرار مكوناته والمعادلات الأمنية والقوانين والتشريعات الدولية الضامنة لأمنه واستقراره.
صحيح أن القانون يوفر الفرص تماما أمام مقاضاة أي دولة أجنبية في أي قضية تتم فيها المطالبة بتعويضات مالية نظير أي إصابات مادية قد تلحق بأفراد أو ممتلكات، أو نتيجة لحدوث حالات وفاة داخل الولايات المتحدة جراء فعل إرهابي أو ما يعتبر تقصيرا أو أفعالا من دول أجنبية أي من أي مسؤول أو مندوب لتلك الدول أثناء فترة توليه منصبه بغض النظر عما إذا كانت الاعتداءات الإرهابية المقصودة قد تمت أم لا، من خلال دعاوى قضائية أمام المحاكم الأميركية، إلّا أنه يوفر فرصا عكسية أو موازية بنفس القدر والتأثير والضرر المحتمل.
فبالإضافة إلى تقويض أحد أسس العلاقات الدولية، وفتح الباب أمام فوضى عارمة بعد القفز على مبدأ الحصانة السيادية للدول، وما يرتبط به من مفاهيم دولية مهمة مثل “الدولة الوطنية” وسيادتها والفصل بينها وبين المنظمات والكيانات الأخرى، فإن الإشكالية تكمن أيضا في أن المشرع الأميركي لم ينتبه إلى أن الولايات المتحدة نفسها قد تكون ضحية لهذا القانون حيث يمكن، بالمثل، مقاضاة الولايات المتحدة أمام محاكم دول أخرى؛ إذ يفسح القانون المجال لرفع قضايا ذات صلة بالإرهاب الدولي وفقاً للقوانين المحلية لكل دولة ضد دول أخرى، ما يتسبب في الإضرار بالأميركيين أنفسهم حتى إذا لم تكن الولايات المتحدة متهمة برعاية الإرهاب، ولكن نشاط مافيا التعويضات في الداخل الأميركي والخارج، على حد سواء، قد ينفخ في نار هذا القانون المثير للجدل، حتى تتحول ساحة العلاقات الدولية إلى فوضى عارمة.
يدرك الكثير من المتخصصين أن هناك ما يعرف بمعايير الاختصاص القانوني وحدود المسؤولية القانونية، وهي مسألة تتعارض تماماً مع تنصيب الكونغرس نفسه مشرعاً دولياً ملزماً لدول أخرى ويمنح نفسه الولاية القانونية والقضائية عليها! وبالتالي فتهافت أسس هذا القانون واضح، ولكنه يمتلك بذور تدمير لحركة الاستثمارات وهجرة رؤوس الأموال وتنقلها بين الأسواق الكبرى الجاذبة للاستثمارات والمستثمرين، وها نحن نتابع الأصوات المنادية في منطقتنا بضرورة سحب الاستثمارات والأموال والأرصدة من الولايات المتحدة وغيرها من الدول الأوروبية، وهي مطالب قد تبدو غير منطقية وصعبة التحقق من الناحية الفعلية، ولكنها تشوّش أجواء الاقتصاد العالمي وحركة الاستثمارات العالمية بما يضر الجميع، وفي مقدمتهم الأسواق الكبرى الجاذبة لهذه الاستثمارات.