تناولت في مقالي السابق التأثير القانوني والاستراتيجي الداهم لقانون “جاستا”على العلاقات الدولية، وأكمل بالقول إن هذا القانون ليس سوى مقصلة جاهزة لتعليق رقبة أي دولة مستهدفة ليس بالضرورة من السياسات الأميركية الرسمية، ولكن من جانب أطراف أخرى مؤثرة في الداخل الأميركي مثل “مافيا التعويضات”واللوبي التابع لأي دولة، وربما دوائر أخرى تابعة لمؤسسات صنع القرار الأميركي، مع ضرورة الأخذ بعين الاعتبار صعوبة الفصل بين هذه المتغيرات في مجملها من النواحي الرسمية والإعلامية والدبلوماسية وغيرها.
إحدى إشكاليات القانون أيضاً تتمثل في الصياغة القانونية القابلة للتأويل والتحوير والتفسير، وهي صياغة زئبقية مطاطة وكأنها أعدت تماماً لهذه الأغراض، وليست صياغة قانونية جامعة مانعة حاكمة صارمة، كما هو المعتاد، لا سيما في مثل هذه القوانين التي تتماس مع أطراف عدة وتمتلك أبعادا قانونية ومادية ومعنوية عميقة. فالقانون يتحدث، على سبيل المثال، عن “الدعم غير المباشر” وهذه بحد ذاتها عبارة قابلة للي الذراع القانوني وتفسيرها وفقاً للمسار القانوني المستهدف بعد أن فتح المشرع المجال لذلك سواء عن تعمد أو عن غير ذلك. ثم كيف يمكن محاسبة دولة بأكملها على سلوكيات شخص يحمل جنسيتها؟
فالقانون الدولي ذاته لم يحمّل الدول مسؤولية أخطاء رؤسائها في ارتكاب الجرائم، بل يجلبهم كأشخاص إلى العدالة الدولية عبر محاكم دولية متخصصة مثل الجنائية الدولية وغير ذلك، ناهيك عن أن فكرة التابع والمتبوع لا تنطبق على الدول، وإلا فإننا سنفتح ملفاً لا نهاية له من الناحية التاريخية والقانونية، وقد يتعرض العالم إن فعل ذلك إلى دائرة معقدة من الأحكام القضائية المتبادلة بفعل أخطاء الساسة في مراحل تاريخية سابقة ولاحقة.
لست بصدد نفي فكرة استهداف المملكة العربية السعودية تحديداً بهذا القانون، ولكن من يطلع عليه بعناية يدرك أيضاً أن الجميع مستهدفون، فلا بقية دول مجلس التعاون بمنأى عنه، ولا إيران أو غيرها من دول المنطقة والعالم، ولكن ما يهمني هو نهج التعاطي مع هذا القانون من جانب إعلامنا العربي، وفي ذلك فرق وطوائف عدة؛ فالبعض يتعاطى مع القانون باعتباره فرصة ثمينة لتسويق قوالبه الجامدة عن كراهية الولايات المتحدة وعدائها للعرب والمسلمين والإسلام، وتآمرها المستمر على دولنا.
والبعض الآخر انتهزه فرصة لإبداء الشماتة بالسعودية وبقية دول مجلس التعاون ومحاولة النيل منها وتمني ضياع أرصدة شعوبها ودولها واستثماراتها في الولايات المتحدة تحت وطأة هذا القانون، والقليل من هؤلاء اكتفى بعدم الإفصاح عن نواياه داعياً الرياض وغيرها إلى الإسراع بجلب أموالها إلى دول عربية أخرى، باعتبار أن العرب أكثر أماناً وحرصاً على بعضهم البعض!
أما الشريحة الثالثة من هؤلاء فقد أطلقت العنان لنفسها دفاعاً عن الولايات المتحدة والغرب واتهام دول مجلس التعاون بدعم الإرهاب وغير ذلك من مزاعم واهية يطلقها تيار معين في الإعلام العربي يتلقى تمويلاً طائفياً من عاصمة الطائفية ونشر المذهبية في منطقتنا، والأمر معروف للكثير من العاملين في أوساط الإعلام العربي، ولا سيما المطلعين منهم على ارتباطات المال السياسي الإيراني ببعض دوائر الإعلام ووسائله في دولنا العربية.
ما يهمني أيضاً في هذه النقاشات الحامية هو استغراق الكثير من الكتّاب والمحللين في تأكيد الفكرة القائلة بأن القانون يمثل نهاية للتحالف أو الشراكة (أياً كان التوصيف الاستراتيجي الدقيق للعلاقة بين الدولتين) السعودية – الأميركية، ثم بروز فريق مدافع عن استمرار هذه العلاقة بصيغتها القائمة، وانبرى كل طرف لإثبات صحة موقفه والبرهنة عليها حتى تاهت الفكرة الأساسية وغاب سبب النقاش ذاته.
والحقيقة أن المتغيرات المتسارعة التي تشهدها المنطقة والعالم، جديرة بأن تفرز معطيات استراتيجية جديدة لها بصماتها القوية على مسار أي علاقات بين دولتين، سواء بين السعودية والولايات المتحدة، أو غيرهما من الدول، فنحن بصدد تحولات استراتيجية فارقة على مستوى المصالح والأسس التي تبنى عليها علاقات الدول بعضها ببعض، فهناك معادلات جديدة للطاقة بعد دخول النفط الصخري في حسابات التخطيط الأميركي، وبروز مصادر جديدة للطاقة، وانحسار دور الطاقة الأحفورية ضمن حسابات التخطيط الاستراتيجي بعيد المدى للدول الصناعية الكبرى، وهناك تحول جذري في الأولويات الاستراتيجية الأميركية، وهو تحول غير مفاجئ بل معلن للجميع، ولكن الغالبية أيضاً لا تتابع بدقة ما يحدث حولها، فاستراتيجية “آسيا أولا” نشرت منذ أعوام ولها توابع وتأثيرات في حسابات التخطيط السياسي والعسكري الأميركي، ومن يقول بغير ذلك، سواء هنا أو هناك، واهم أو في أحسن الأحوال يطلق تحليلات بالتمني.
ما أقصده أن قانون “جاستا”، أو غيره، لا يغير مسار علاقات استراتيجية بين دولتين حليفتين، ولكن تبقى العبرة في المطلق بشبكات المصالح الاستراتيجية وتطويرها وتعزيزها، فضلا عن أهمية امتلاك أوراق بديلة وفتح مساحات وهوامش مناورة استراتيجية مضادة أو متوازية، بحيث تستطيع امتلاك البديل وتعزيز موقفك التفاوضي في مواجهة أي دولة حليفة أو منافسة، فالأمر سيان، والمصالح هي الفيصل والحاكم الأساس بين الجميع.
قد يكون من المهم أيضاً أن نعيد دراسة الموقف والحسابات بدقة، ونتعلم من الأخطاء، فإيران دولة عدوة للولايات المتحدة، وهذا ظاهر منذ سنوات، ولكنها استطاعت بناء “لوبي” قوي يدافع عن مصالحها ويروج لها في المؤسسات البحثية والإعلامية بل وداخل مؤسسات صنع القرار الأميركي ذاته، في حين سقطت بعض دولنا العربية في فخ الاعتماد على العداء المعلن بين طهران وواشنطن، واللجوء إلى “الشخصنة” في إدارة علاقاتها مع الجانب الأميركي والاعتماد على العلاقات الشخصية في إدارة علاقاتها مع واشنطن، وهنا تطفو الإشكاليات على السطح وقت الأزمات، ويتفوق من يمتلك شبكة من العلاقات العامة قادرة على إحداث التأثير الحيوي وقت الحاجة؛ فهناك شخصيات سياسية مؤثرة لها علاقات باللوبي الإيراني في الولايات المتحدة، وكان لها دور مؤثر في الدفع باتجاه تمرير هذا القانون.
قد يكون قانون “جاستا”جرس إنذار مفيد لدول مجلس التعاون شريطة أن تدرس الملف من جميع جوانبه، كي تعيد هيكلة علاقاتها مع الولايات المتحدة وغيرها من الدول الكبرى وفق منطق مصالح هادئ بعيداً عن الانفعالات والتشنجات.