مايحدث ـ حتى الآن ـ من تفاعلات وتراشق سياسي في سباق انتخابات الرئاسة الأمريكية يبدو في كثير من جوانبه عادياً وتكراراً لما سبق من جولات انتخابية سابقة، ولكن هناك مسألة تلفت انتباه الخبراء والمراقبين في المناظرة الثالثة تحديداً، حيث ألمح المرشح الجمهوري دونالد ترامب خلال آخر مناظرة له مع منافسته عن الحزب الديمقراطي هيلاري كلينتون، إلى أنه قد لا يقبل بنتائج الانتخابات في حال خسارته السباق الرئاسي، وقال ترامب إنه سينظر الأمر في حينه، مكرراً اتهاماته السابقة بأن هذه الانتخابات "مزورة".
يتحدث ترامب بثقة لافتة عما يصفه بتزوير انتخابات الثامن من نوفمبر المقبل، وكرر هذه الاتهامات في أكثر من لقاء إعلامي، ثم عاد والقى بها كالقنبلة في المناظرة الثالثة، وكأنه يمهد لهزيمته أو يبررها مسبقاً، لاسيما أن أغلب استطلاعات الرأي، التي أعقبت المناظرات الانتخابية، بما في ذلك المناظرة الثالثة، لا تزال تمنح الأسبقية لمنافسته هيلاري كلينتون.
اللافت أن ترامب يتحدث عن تزوير الانتخابات ولم يقدم دليلاً واحداً للجهات الرسمية المعنية لحماية العملية الانتخابية من تزوير محتمل بحسب رأيه، ولكنه تحدث بشكل عام عن وسائل الاعلام التي تؤثر في أصوات الناخبين لمصلحة هيلاري كلينتون، وهو يعاني في حالته هذه إشكالية غير مسبوقة، فمعظم الصحف الأمريكية المؤثرة، مثل "نيويورك تايمز" و "واشنطن بوست" و "لو انجلوس تايمز" قد أعلنت انحيازها المؤكد لمصلحة منافسته الديمقراطية، بل استنكر بعضها انتظار بعض الناخبين المترددين للمناظرة الثالثة كي يحسم موقفه من المرشحين الرئاسيين، معتبراً أن الأمور واضحة للجميع منذ المناظرة الأولى.
ما يحد من أهمية الشكوك واللغط الذي يثيره دونالد ترامب عاملين مهمين أولهما أنه غالبا يقصد موقف وسائل الإعلام الأمريكية التي تروج لمنافسته وتحرض الناخبين على عدم التصويت له، ولا يقصد بالتزوير المفهوم التقليدي المتعارف عليه أو وجود ثغرات في النظام الانتخابي الأمريكي ذاته، فآليات العملية الانتخابية في الولايات المتحدة معروفة ومعلنة للجميع وهناك دور رقابي قوي للمجتمع المدني الأمريكي عليها، والعامل الثاني أن كبار مسؤولي الحزب الجمهوري ذاته لا يتبنون موقف ترامب ومزاعمه حيال الانتخابات، وأعربوا غير مرة عن ثقتهم المطلقة في نزاهة وقوة النظام الانتخابي في البلاد، ما دفعه إلى مهاجمتهم والقول بأنهم "سذج للغاية"، ويبدو أن هؤلاء المسؤولين باتوا يواجهون مشكلة حقيقة، ولم يعد أمامهم سوى محاولة الخروج بأقل الخسائر السياسية من مأزق ترامب.
وقع ترامب في خطأ سياسياً قاتلاً لن يغفره له التاريخ السياسي الأمريكي، بل إنه تسبب في إلحاق هدف المباراة الانتخابية بمرماه من نيران ذاتية وليست صديقة، فلم يسبق لأي مرشح رئاسي أن شكك في النظام الانتخابي، بل إن هذا النظام مثار فخر للساسة الأمريكيين ويتحدث الجميع دوما عن أنه أحد مقومات النموذج والتجربة الديمقراطية الأمريكية، التي تتباهي بها الولايات المتحدة قائدة النظام العالمي الجديد.
ولو حدث هذا السيناريو بالفعل ستكون الدوائر السياسية الأمريكية جميعها في مواجهة سابقة فريدة من نوعها في التاريخ السياسي للبلاد، وتصبح واحد من أكبر الديمقراطيات في العالم في مواجهة موقف نوعي فريد.
وبطبيعة الحال هناك قواعد دقيقة حاكمة للممارسة الانتخابية في الولايات المتحدة، ولكن تشكيك مرشح رئاسي في نزاهة الانتخابات يعد بحد ذاته واقعة ربما تفتح النقاش العام حول ملفات كثيرة، لاسيما أن ترامب ليس مرشحاً سياسياً بالأساس بل رجل أعمال يمتلك شخصية جدلية تجعله مثار اهتمام الاعلام دائماً.
تشنج ترامب وعصبيته في مواجهة اتهامات الفضائح الجنسية المتلاحقة التي حاصرته، تسببت في إضعاف موقفه التنافسي للغاية، ووجه لفرص فوزه ضربة قوية قد تقضي عليه سياسياً بشكل عام، ولن يقتصر تأثيرها ـ على الأرجح ـ على فرص فوزه في انتخابات الثامن من نوفمبر فقط، فلم يعد بوسع مسؤولي الحزب الجمهوري تقديم دعم لمرشح يشكك في النظام الانتخابي للبلاد، ويكفي أن الخبراء الأمريكيون قد اعتبروا أن ترامب قد قدم بنفسه للاعلام الأمريكي حبل شنق مستقبله السياسي، وفي ذلك درس مهم بشأن ضرورة احترام المواطنين لدولهم ووضع سقف للاختلاف والخلاف السياسي بحيث لا يتقاطع مع الخطوط الحمر التي تتعلق بأمن الدول واستقرارها.
المناظرة الثالثة بالأخص كانت أكثر سخونة وتوتراً ربما لأنها كانت الفرصة الأخيرة أمام المرشح الجمهوري لاثبات تفوقه على منافسته بعد هزيمته في استطلاعات الرأي في المناظرتين الأوليتين، حيث بلغ به الانفعال حد تحقير منافسته واتهامها بأنها "امرأة شريرة أو بغيضة"، وبطبيعة الحال لم تصمت كلينتون في مواجهة هذه الاتهامات، حيث وصفته بأنه "المرشح الأكثر خطراً" في التاريخ الأمريكي المعاصر، وكانت نهاية المناظرة الثالثة كاشفة لأجواء العلاقة بين المرشحين المتنافسين حيث لم يتصافحا عقب انتهائها، على عكس المناظرة الثانية التي أجبرهما سؤال أحد الحضور على إظهار احترام كل منهما للآخر.
ومن تحليل المناظرات الثلاثة، يبدو أن كلا المرشحين قد نال من الآخر وأصابه إصابات سياسية قاتلة، وبالتالي فإن الفائز، أياً كانت هويته لن يخرج سليماُ تماماً من هذه الجولة التنافسية الشرسة، بل ستظل الشكوك والاتهامات المثارة من منافسه تلاحقه طيلة سنوات رئاسته، وهنا سيكون العالم بصدد رئيس أمريكي يستهل فترة رئاسته بالضعف ذاته الذي انتهت إليه الإدارة السابقة!!
اعتادت الأدبيات السياسية على وصف أي رئيس أمريكي في نهاية فترة رئاسته الثانية بالبطة العرجاء، وهو وصف دقيق يعبر عن حالة قائمة بالفعل ومتكررة في المشهد السياسي الأمريكي، ولكن لم يسبق أن استهل رئيس أمريكي فترة رئاسته بضعف ناجم عن ما أصابه من شظيات خلال فترة الحملة الانتخابية.
ما أثير خلال المناظرتين الثانية والثالثة تحديداً من جدل ساخن حول العلاقات الأمريكية ـ الروسية، يفرز مؤشرات يصعب على أي الرئيس المقبل القفز عليها، فالمرشح الجمهوري دونالد ترامب لن ينسى أن منافسته وصفته بـ "الدمية" وأن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يفضل أن "يرى دمية رئيساً للولايات المتحدة"، وفي الجانب الاخر لن تنسى المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون قول ترامب أن الرئيس الروسي لا يكن لها أي احترام.