يصور لنا الإعلام العربي وبعض الإعلام الغربي أن العالم بعد العشرين من يناير المقبل سيكون غير ما قبله، وأن هذا التاريخ، الذي يتولى فيه الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب منصبه رسميا، سيكون محطة فاصلة في تاريخ العلاقات الدولية. في مثل هذه التصورات شيء من الحقيقة والكثير من الخيال، فالرئيس ترامب بالفعل يختلف عن سلفه الرئيس أوباما، ويتبنى أجندة مغايرة له تماما، ولكن هذا الأمر لا يعني أنه سيتجه بدفة سفينة السياسة الخارجية الأميركية في اتجاه عكسي تماما، أو أنه سيعيد هيكلتها بين عشية وضحاها، وأن أصدقاء الولايات المتحدة سيتحولون إلى أعداء، والعكس صحيح، بمجرد دخول الرئيس ترامب البيت الأبيض.
ولقد تعجبت عندما قرأت تعليقات بعض المحللين حول خبر إغلاق الرئيس الأميركي الجديد بعض شركاته المرتبطة بالمملكة العربية السعودية، حيث اعتبروا أن الأمر يعكس توجها عدائيا، بل ذهب البعض إلى القطع بأن هذه الخطوة بمنزلة استعداد وشيك لصدام أميركي ـ سعودي! مثل هذه الأقاويل، ولا أقول التحليلات لأن التحليل السياسي بالأخير يجب أن يستند إلى معطيات ووقائع محددة يفسرها في ضوء خبرات تراكمية ونظريات سياسية وإدراك واع لمعطيات البيئة الاستراتيجية الحاكمة لمثل هذه الأمور، هي ما يعرف في الأدبيات بالتحليل بالتمني، وهو أمر انتشر كثيرا في منطقتنا خلال السنوات الأخيرة، حيث يكتب الكثيرون ما يتمنون أن يحدث، وليس ما يتوقع أن يحدث أو يمكن أن يحدث في ضوء المعطيات السائدة والتحليل العلمي الدقيق.
هذا الكلام لا يعني أنني أحتكر الحقيقة، أو أن لدي المقدرة على استشراف تحركات الإدارة الأميركية الجديدة أكثر من غيري، ولكني أحاول بناء موقف موضوعي من أجل صياغة رؤية عربية أقرب للحقيقة حيال الإدارة الأميركية الجديدة، فنحن هنا لا نتحدث عن توجهات للحزب الديمقراطي أو الجمهوري، بل عن توجهات رئيس يحظى بكاريزما ذاتية عالية تفصله عن توجهات الحزب الذي ينتمي إليه. فكلنا يعرف تماما أن الحزب الجمهوري لم يقدم مساندة تامة أو مطلقة للرئيس ترامب في الانتخابات الرئاسية، بل إن بعض قادة الحزب الجمهوري قد تخلوا عنه وأعلن بعضهم العداء لتوجهاته علنا، ولم ينتخب الرئيس ترامب أيضا لكونه جمهوريا، بل لأنه صاحب آراء حازت على إعجاب شريحة كبيرة من الجمهور الأميركي، كما لعبت سياسات الرئيس أوباماً، وتوجهات المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون دورا مؤثرا في التصويت لمصلحة ترامب، وبالتالي فنحن لا نتحدث عن توجهات وسياسات جمهورية، بل عن توجهات ترامبية بامتياز، ويصعب وضعها في سياق سياسات الحزب الجمهوري والحكم عليها في ضوء موروث سياسات الرؤساء الجمهوريين السابقين.
المؤكد أن الرئيس ترامب يتصرف على خلاف سابقيه ولا يلتزم بالنمط التقليدي لأداء الرؤساء قبيل فترة توليه السلطة بشكل رسمي، وبالتالي يتوقع أن يخرج عن النطاق المألوف للرؤساء في ما بعد توليه السلطة. أولويات الرئيس ترامب ربما بدأت في التشكل، فقد بادر بالاتصال مع الرئيس التايواني، العدو اللدود للصين، معلنا بذلك عن توجه صدامي إلى حد كبير مع بكين، ومؤكداً بشكل ما عن مواصلة الاهتمام بالشرق الأقصى، وهو اهتمام بدأه الرئيس اوباما عبر استراتيجية “آسيا أولا”، التي أنتجت الاتفاق النووي مع إيران وانحسار الدور الأميركي في قضايا الشرق الأوسط.
ومن الصعب أن يستثمر الرئيس ترامب سياسيا في قضايا الشرق الأوسط، التي فشل سابقوه في إيجاد حلول ناجعة لها، لا سيما القضية الفلسطينية، ولكنه بالتأكيد سيضع الإرهاب في صدارة اهتماماته، وهذا لا يعني بالضرورة أنه سيبعث يوم الحادي والعشرين من يناير المقبل، قوات أميركية لمحاربة “داعش”، أو غيره، بل الأرجح أنه سيركز على تفعيل شركاء الولايات المتحدة ميدانيا في محاربة الإرهاب، وسيتخذ المزيد من إجراءات الحصار المالي والتسليحي للتنظيمات المتطرفة.
لن يبذل الرئيس ترامب أي جهد يذكر في البحث عن حلول للقضية الفلسطينية، بل إن هذه القضية مرشحة لفترة جمود ثلجية تستمر، على الأقل، خلال السنوات الأربع التي سيتولى خلالها الرئيس الأميركي الجديد السلطة، أما إيران فهي الملف الأثير لدى الإدارة الأميركية الجديدة شرق أوسطيا، حيث يتوقع أن يحصل هذا الملف على اهتمام كبير من الرئيس ترامب، ولكن لا ينبغي حرق المراحل والتنبؤ باحتمالية نشوب حالة صراع عسكري بين الجانبين، حتى لو كان هذا الأمر في مصلحة إسرائيل.
دول مجلس التعاون بدورها لن تكون في دائرة التصويب المباشرة للرئيس ترامب كما يتوقع، أو يتمنى الكثيرون في منطقتنا، فهناك شبكة مصالح استراتيجية ضخمة تربط الجانبين، وهناك أمور عدة تقف حائلا دون المجازفة بتوقع أي صدام في المصالح بين دول مجلس التعاون والشريك الاستراتيجي الأميركي، وما يقال في هذا الشأن ليس سوى تحليلات بالتمني كما ذكرت في بداية مقالي. في كل الأحوال، نحن أمام إدارة مختلفة كليا عما سبقها، ليست فقط إدارة الرئيس أوباما، بل أيضا الإدارات الأميركية الجمهورية السابقة، وبالتالي علينا أن ننتظر ونراقب قليلا، إنه عالم ترامب، وستكون توجهاته مثار جدل ليس فقط بين الولايات المتحدة والكثير من دول العالم، بل أيضا في الداخل الأميركي ذاته.