تؤكد الشواهد كافة، لاسيما ما شهدته دول عدة في الاونة الأخيرة، سواء في مصر او المملكة الأردنية أو المانيا أم تركيا، أن الارهاب يزداد توحشاً وإجراماً، وأن جهود استئصاله لا تزال بحاجة إلى تكثيف وانتشار وتوسع على المستويات كافة.
ربما يعتقد بعض الخبراء أن هزيمة الارهاب في مدينة أو منطقة معينة يشير إلى قرب انتهائه، ولكن تجارب التاريخ مع هذه الظاهرة البغيضة تتضمن دروساً مهمة منها أنها ظاهرة قادرة على البقاء في أسوأ الظروف، وأنها قادرة على استعادة قوتها بمجرد الافلات من أزمة طاحنة، أو ضغط عسكري وأمني مكثف، وأنها تتسم بقدرة عالية على المراوحة بين المد والجزر، والأهم مما سبق أن قادة الارهاب يراهنون على توهج الفكرة، وأنها تقتات على جهود مكافحتها، وهذا أخطر مافي الأمر برمته، أما كيف يحدث ذلك فلهذا تفسير آخر.
قادة الارهاب يتعاملون مع الضربات العسكرية والأمنية الموجهة ضدهم باعتبارها "منحة" أو فرصة يستغلونها لحشد التعاطف سواء عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أو عبر الأدوات والقنوات التقليدية للحشد والتجنيد والاستقطاب الأيديولوجي، حيث يوظفون الحملات الدولية او المنفردة للدول ضدهم باعتبارها حرباً ضد الدين، وأن من يقومون بهذه الحرب هم من "أعداء الاسلام" حتى لو كان هؤلاء دولاً عربية وإسلامية (!) وغير ذلك من التخرصات والأكاذيب التي يروجونها وتجد صدى لدى المراهقين والشباب بسبب ضعف الثقافة والتعليم، وانحسار دور القنوات الشرعية للتوعية الدينية والثقافية، ناهيك عما تلعبه عما داعمة لهذه الأجواء السلبية مثل البطالة والتفكك الأسري وانهيار القيم والأخلاقيات وغير ذلك من ظواهر سلبية يقتات عليها الارهاب ويستغلها في تحقيق أهداف الانتشار والتوسع الجغرافي والفكري.
للمرة الثانية، تكرر تكتيك "الدهس" في تنفيذ جريمة ارهابية في ألمانيا، وهو تكتيك في غاية الخطورة، ويكتسب هذه الخطورة من بساطته وعدم حاجته إلى أدوات لارتكاب الجريمة، بل يتطلب فقط "شحن" رأس المدبر أو المنفذ بفكرة انتقامية معينة، وتأجيج مشاعره واستمالة عواطفه الدينية مع اللعب على وتر الجهل بأمور الدين، ووجود فراغ هائل في المعرفة بأصول الدين الحقيقية، لاسيما لدى المسلمين في الدول الغربية، الذين تواجدت بينهم جماعات الارهاب وتنظيماته منذ سنوات وعقود، وغرست لدى الكثيرين من بينهم أفكار ارهابية متطرفة هي بمنزلة قنابل موقوتة، قابلة للانفجار في أي وقت وأي مكان.
الواضح أن تنظيم "داعش" بات يستخدم أدوات جديدة للضغط على أطراف دولية بعينها من أجل التأثير في مواقفها السياسية والعسكرية إزاء الحرب ضد الارهاب، ومن هذا المنطلق يمكن تفسير الجريمة الارهابية في برلين مؤخراً، حيث هاجم أحد عناصر التنظيم سوقاً بشاحنة ما أسفر عن مقتل 12 شخصاً وإصابة عشرات آخرين.
جريمة برلين تحديداً ليست مجرد اسستنساخ من جريمة نيس الفرنسية، التي ارتكبت بالتكتيك ذاته، بل إن هناك جوانب تغيير يجب الانتباه لها، فسائق الشاحنة الأصلي وجد مقتولاً بالرصاص على الكرسي المجاور لسائق الشاحنة، وتقول مصادر الشرطة الألمانية أنه بولندي الجنسية، ولم تعثر الشرطة على أي مسدس داخل الشاحنة، ما يعني أن هناك طرف ثالث ارتكب الجريمة، ولكن المؤكد في الجريمة أنها من تدبير تنظيم "داعش"، الذي تبناها على مواقعه الالكترونية.
مثلما كان سائق شاحنة نيس غير ذي علاقة مباشرة بتنظيمات الارهاب، يبدو أن جريمة برلين ستكون على درجة مماثلة من الغموض في تفكيك ألغازها، وفهم ماورائها من أجل التعرف إلى طريقة عمل التنظيم وكيفية اختراقه للمجتمعات والتهرب من الرقابة الأمنية المكثفة، لاسيما في فترات مثل أعياد الميلاد وغير ذلك.
جريمة اغتيال السفير الروسي في أنقرة هي الأخرى كارثة جديدة يجب الانتباه لها، فالفاعل من عناصر الشرطة المكلفة مكافحة الشغب، وهو عنصر مدرب بالتأكيد، واخترق الدائرة الأمنية للسفير بسهولة بمساعدة هويته الشخصية، وهذا الأمر ينتج الكثير من الدروس والتساؤلات في آن واحد، إذ كيف يمكن ضمان عدم اختراق الارهاب للدوائر الأمنية، وكيف يمكن التأكد تماماً من "تحديث" المعلومات حول العناصر الأمنية، وعدم الاكتفاء بالمعلومات الأساسية الأولية، التي يمكن أن تتعرض للتغيير بفعل ظهور متغيرات جديدة ذات تأثير بالغ في المعتقدات والأفكار؟.
الانفعال الذي صرخ به الارهابي في أنقرة يعني أنه تعرض لتأثير فكري قاهر وبالغ استغل ماحدث في مدينة حلب لغرس أفكار معينة لدى هذا الارهابي الشاب، وهنا يبدو الأمر صاعقاً لأن العنصر الذي يفترض فيه الحماية هو من يرتكب الجريمة، وهذا مايفسر نظرات الشك التي ملئت عيون الحرس الشخصي لوزير الخارجية الايراني جواد ظريف في أفراد الأمن الأتراك لدى وجود الوزير الايراني في أنقرة عقب جريمة الاغتيال مباشرة.
الخلاصة أن الارهاب يتمدد ويبتكر أدوات وتكتيكات جديدة، ولا يزال العالم بكل ما أنتجته البشرية من تطور وتقدم على المستوى الأمني والتقني، في مربع رد الفعل وملاحقة الجريمة الارهابية، ومن الصعوبة الحديث عن الانتقال إلى مربع الفعل والمبادأة من دون تبني إجراءات استباقية مبتكرة للوقاية من الجريمة الارهابية شريطة عدم الوقوع في فخ محاربة الأديان أو إشهار سيف العداء لها كما يحدث من ارتفاع لنبرة العداء للاسلام في بعض الدول الغربية، فهذه النبرة هي قبلة الحياة المتجددة للارهاب وتنظيماته.