تعليقاً على ما حدث خلال احتجاجات أصحاب "السترات الصفراء" في فرنسا، قال وزير الداخلية كريستوف كاستنير، إن المظاهرات المناهضة للحكومة في فرنسا قد "خلقت وحشاً أفلت ممن أوجدوه "، محذراً من أن بعض "العناصر المتطرفة" قد تتمكن من التغلغل في الاحتجاجات التي تخطط لها حركة "السترات الصفراء".
"الوحش" الذي تحدث عنه الوزير الفرنسي ربما يشير إلى كيفية تطور أي احتجاجات إلى تطورات وممارسات يصعب السيطرة عليها، أو مواجهتها؛ فالاحتجاجات في فرنسا بدأ برفض قرار زيادة الضرائب على أسعار الوقود، وتطورت بعد أيام لتشمل قضايا أخرى منها إصلاحات نظام التعليم وصولاً إلى نظام اختبارات "البكالوريا" (الثانوية العامة) ونحو أربعين موضوعاً آخر باتوا موضع مطالبات!
هذه الدينامية الخاصة بتطور الاحتجاجات متعارف عليها وليست مفاجئة للمتخصصين والباحثين، وسبق أن تكررت في الكثير من الحالات المماثلة قديماً وحديثاً، وتشير إلى التأثير المتنامي اللامحدود لوسائل التواصل الاجتماعي في الحشد الجماهيري، وهي مسألة كان يعتقد أنها محصورة في الدول النامية، ولكن النتيجة الأبرز في أحداث فرنسا أن التطورات والمسارات تكاد تتشابه في مجمل الحالات، لا فرق بين دول نامية وأخرى متقدمة.
ورغم عدم بروز قيادات في أحداث الاحتجاج في فرنسا، فإن هذه الظاهرة جديرة بالدراسة والبحث، فآليات الاحتجاج في عصر المعلومات لم تعد كما كانت، سواء من حيث طريقة التفاعل، أو من حيث أسلوب الانتشار والتطور، وبالتالي أنماط السيطرة والتحكم والاستجابات المفترضة في هكذا حالات.
أخطر مافي أي احتجاج هو الانزلاق إلى التخريب واستغلال الفوضويين وعناصر التخريب والمتطرفين لأجواء الاحتجاج في تصعيد الأمر عبر استفزاز أجهزة الأمن والقيم بأعمال عنف وتخريب لتغذية فكرة الفوضى ونشرها قدر الإمكان، وهذا الانزلاق وارد بشكل قطعي نظراً لأن الفوضى تغري أي متطرفين أو فوضويين على تنفيذ أغراضهم، كما تغري أي عناصر معادية أو أجهزة استخبارات معادية على تنفيذ أجنداتها الخاصة ضد هذا البلد او ذاك باستغلال ظروف الفوضى والاضطرابات، التي تعد بيئة مثالية لتقويض الاستقرار وزعزعة ركائز الأمن في أي دولة أو مجتمع.
في ضوء عواقب الأمور ومآلاتها المحتملة، وفي ظل الفوضى وأعمال العنف، يصبح الحديث عن إجراءات أمنية معيارية أو انضباط أو غير ذلك من مفاهيم ومصطلحات، نوع من الرفاه الذي لا يمتلكه أي مسؤول سياسي أو أمني، فعندما يتعرض أمن الدول والمجتمعات للخطر، يصعب على أي عاقل الحديث عن معايير أو مقاييس، فالفوضى والعنف وشبح انهيار منظومات الأمن، تسقط بالتبعية أي التزام تقليدي، وهذه مسألة بديهية لأن من الصعب لعاقل ان يلتزم الهدوء في ظل تخريب الآثار والمصالح والممتلكات العامة!
الإشكالية أن البعض يأخذ على أجهزة الأمن في الدول المتقدمة حمايتها للمنشآت والسعي لفرض الأمن عبر استخدام قدر مدروس من الصرامة، ولا يلوم من تسبب في اندلاع التخريب والحرق والتدمير، وكأن الديمقراطية تعني ترك الدول مقدراتها للنهب والسرقة والحرق والتخريب في لحظات الفوضى العارمة!
هذه الأحداث تلفت الانتباه إلى التأثير المتنامي لوسائل التواصل الاجتماعي في الأمن والاستقرار، فشرارة الاحتجاجات باتت تولد في صفحات الانترنت وليس في قاعات الأحزاب، وينضم إليه حشود من مختلف ألوان الطيف السياسي، يميناً ويساراً، من دون التزام أيديولوجي أو سياسي، وهذه مسألة في منتهى الأهمية لأنها تضيف تحديات جديدة لأمن المجتمعات والدول، حيث بات من الصعب التنبؤ بمسارات التفاعل الجمعي مع أي أفكار تنتشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
جزء كبير من صراعات السياسة في الغرب انتقل من ساحات الأحزاب إلى ساحات الانترنت، وأصبحت تكنولوجيا المعلومات أحد أهم المؤثرات في تشكيل بنية السياسة والحكم في دول العالم في القرن الحادي والعشرين.
العالم كله يراقب بالتأكيد مسار الاحتجاجات في فرنسا، فقد لفتت هذه الاحتجاجات الأنظار إلى تأثير الاعلام الجديد في الغرب بعد أن اعتقد الكثيرون أن هذا التأثير محصور في الدول النامية، وتحديداً في منطقة الشرق الأوسط، منذ بروز دور وسائل التواصل الاجتماعي في نشر الفوضى والاضطرابات في أحداث عام 2011.
هذه الأحداث ستأخذ حتماً حقها في البحث والدراسة العلمية عقب تحقق الهدوء والتعرف إلى ما ستسفر عنه بشكل نهائي، ولكن على بعض الدول العربية الانتباه إلى كيفية تفاعل إعلام التنظيمات الإرهابية والاعلام المدعوم من قطر مع تلك الاحتجاجات وتسليط الضوء عليها بشكل دعائي كثيف مع التركيز على فكرة الغضب والاحتجاج بشكل عام كسلوك بديهي للشعوب في مواجهة ما تراه عوامل ضغط معيشية، حيث تقوم هذه القنوات بجلد ضمير الشعوب العربية التي تعاني ضغوط حياتية أو معيشية، وتطالبهم بالتحرك والاحتجاج العارم باعتباره سلوكاً طبيعياً في مواجهة متاعب الحياة!
يدرك الاعلام التنظيمات المتطرفة أن استنساخ احتجاجات فرنسا لن يكون آنياً، ولكنهم يعملون على تغذية شحنات الغضب لدى الأفراد، ويهيئون المجتمعات للقيام بتحركات جماعية، وهذا ما يجب الانتباه له لاسيما أن الاعلام الرسمي يتعامل بسذاجة مفرطة مع احتجاجات فرنسا ويسلط الضوء على أسبابها ويغرق في الحديث عن الفوارق في أسعار السلع والخدمات، ويتجاهل تماماً مظاهر وعواقب ونتائج العنف والفوضى التي تورط فيها عدد كبير من المحتجين!