في واحدة من أخطر مراحل التوتر التي تمر بها منطقة الشرق الأوسط منذ عقود طويلة مضت، يبرز الموقف السعودي باعتباره عنصراً مفتاحياً فيما يدور بالمنطقة، ونقصد هنا تحديداً مصير قطاع غزة الفلسطيني، حيث يتزايد الجدل حول مرحلة مابعد توقف الحرب، ولاسيما بعد طرح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب فكرة تهجير سكان القطاع، حيث يبدو الموقف السعودي في غاية الأهمية ليس فقط لمكانة المملكة العربية السعودية وثقلها الجيواستراتيجي على الصعيدين العربي والإسلامي، ولكن لأن هناك ترقب إقليمي ودولي لموقف الرياض بشأن تطبيع العلاقات مع إسرائيل في ظل التطورات المتسارعة التي تشهدها القضية الفلسطينية.
بلاشك أنه رغم كل التكهنات والتوقعات التي تتداولها وسائل الإعلام الغربية بشأن موقف المملكة العربية السعودية من مسألة التطبيع، خصوصاً بعد عودة الرئيس ترامب للبيت الأبيض ورهانه الكبير على استئناف مسيرة تطبيع العلاقات بين دولة إسرائيل وجيرانها العرب، إلا أن موقف الرياض لم تطرأ عليه أي تغيرات من أي نوع، فالدبلوماسية السعودية في هذا الملف واضحة ولا تناور بل تقوم على ثوابت وأسس واضحة للغاية، ناهيك عن أن الدبلوماسية السعودية تتسم بقدر عال من الهدوء والكياسة، وهذا الأمر يضمن لها قدراً عالياً من الاحترام والتقدير لدى الأوساط الاقليمية والدولية.
هناك قناعة أمريكية ـ إسرائيلية راسخة بأن انخراط الرياض في مسيرة السلام يمثل تحولاً كبيراً في الخارطة الجيوسياسية الشرق أوسطية، وهو كذلك بالفعل، بحكم الثقل النوعي للمملكة العربية السعودية على الصعد الخليجية والعربية والإسلامية، ولكن الرياض تدرس خطواتها في هذا الملف بكل كياسة ودقة، ولا تريد فقدان ما راكمته طيلة السنوات الفائتة من مكاسب استراتيجية نتيجة لسياسات ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، الذي نجح باقتدار في إعادة تموضع المملكة على خارطة العلاقات الدولية في غضون سنوات قلائل، بحيث باتت المملكة العربية السعودية أحد مراكز الجذب التي تستقطب اهتمام العالم، استثمارياً واقتصاديا وتجارياً ورياضياً وثقافياً، بكل ما يعنيه ذلك من تغيرات ايجابية جذرية في الصورة الذهنية التي ارتبطت بالسعودية طويلاً، وتحولات في السردية التي يمكن أن يحكيها العالم عن المملكة في المجالات، حيث تتلاشى تدريجياً الأفكار السلبية والصور النمطية المقولبة التي كان يرددها الإعلام الغربي بشكل تقليدي كلما دار الحديث عن المملكة العربية السعودية في أي مجال من المجالات.
وبجانب كل هذه النجاحات السعودية، فإن نقاشات تطبيع العلاقات بين المملكة العربية السعودية ودولة إسرائيل لم تغب عن أجندة الدبلوماسية السعودية رغم تداعيات حرب غزة، ليس لتمسك سعودي بهذا الملف ولكن لأنه بات بنداً مطروحاً بشكل دائم ضمن موضوعات الحوار السعودي ـ الأمريكي على وجه الخصوص، ولكن الملاحظ أن التوجهات السعودية لم يطرأ عليها أي تغير يذكر فالأمر بالنسبة للقيادة السعودية مرهون بحسابات استراتيجية سعودية خالصة، فالمملكة لها وضعية استثنائية على المستويين الروحي والاستراتيجي، كما أن علاقاتها مع الولايات المتحدة بحاجة إلى تفاهمات وتوافقات جديدة تتناسب مع الواقع الجديد في علاقات الحليفين التاريخيين التقليديين.
السعودية تتغير بشكل جوهري، ومن ضمن ذلك التغيير يأتي ملف تطبيع العلاقات مع دولة إسرائيل وإيران وغيرهما، فالتغيير يستهدف مستقبل الأجيال السعودية المقبلة بالأساس، حيث تمضي بقوة عملية بناء سعودية تتماهى مع طموحات شبابها ومواطنيها، ويضعها في المكانة التي تليق بها كقوة إقليمية تتمتع بكل موارد القوة ومظاهرها، الصلبة والناعمة معاً، وبما يضمن للمملكة امتلاك أوراق التأثير على الساحة الدولية بالشكل الذي يحقق لها مصالحها ويجعلها بمنأى عن الانخراط في صراعات او أزمات قد تعرقل مسيرتها التنموية الطموحة للغاية.
ليس سراً أن السعودية تفكر في دولة إسرائيل كـ"حليف محتمل"كما سبق أن قال سمو الأمير محمد بن سلمان ولي العهد السعودي، الذي أكد كذلك أن إسرائيل ليست عدواً لبلاده، فالرياض بالنهاية هي صاحبة مبادرة السلام في عام 2002، ما يعني أنه ليس لدى المملكة العربية السعودية إشكالية أو نفور من المبدأ، ولكنها بالمقابل تنطلق من دورها المحوري عربياً وإسلامياً، وتسعى لصيغة تنفيذية تحقق المصالح المشتركة للجميع وتضمن سلاماً واستقراراً فعلياً، ولكن الفكر السعودية يتطلب بالمقابل جهداً إسرائيلياً يوفر البيئة الاستراتيجية الملائمة التي تشجع المملكة العربية السعودية وغيرها على الالتحاق بقطار السلام، وهو ما يدعو الدبلوماسية السعودية للتأكيد مراراً على حتمية حل الدولتين وضرورة قيام دولة فلسطينية كمسار حتمي للانخراط في عملية تطبيع العلاقات مع دولة إسرائيل.
السعودية لن تدعم أي توجه لتهجير الفلسطينيين ولن تشارك في أي طرح من هذا القبيل، وبالتالي فإن انحسار فرص تسوية الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي سياسياً ينسحب بالضرورة على فرص تطبيع العلاقات بين المملكة وإسرائيل، وكل ما عدا ذلك يبدو نوعاً من التخمينات والتوقعات غير المرجحة في ظل الشواهد الراهنة.