لا جدال في أن النظام الإيراني بات يجد نفسه في مأزق وجودي لم يتعرض له منذ ثورة الخميني عام 1979، حتى أن هذا المأزق لا يقارن بالحرب التي خاضتها إيران ضد نظام صدام حسين واستمرت لنحو ثماني سنوات، وبالتالي فإن السؤال الذي يطرح نفسه على خلفية الهجمة العسكرية الشرسة التي تشنها دولة إسرائيل ضد أذرع إيران في الشرق الاوسط هو: هل يستطيع النظام الإيراني الخروج من هذه الأزمة من دون خسائر أو بالحد الأدنى من الخسائر من دون أن يتعرض مستقبله للتهديد؟
في الإجابة على هذه السؤال علينا تحديد بعض المعطيات التي تساعد في الوصول إلى استنتاجات أقرب إلى الواقعية، وفي مقدمة ذلك تأتي الوضعية التفاوضية القوية للنظام الإيراني قبل الهجوم الدموي في السابع من أكتوبر 2023، الذي شنته حركة حماس الإرهابية ضد دولة إسرائيل، حيث كانت الجهود الغربية، والأمريكية على وجه التحديد، تركز على "استرضاء" النظام الإيراني والسعي لاقناعه بقبول استئناف سريان الاتفاق النووي، أضف إلى ذلك أن النظام الإيراني قد استفاد من الحرب الروسية ـ الأوكرانية حين شاركت بعض المسيرات التي باعها لروسيا في الحرب، حيث وجدت إيران في هذه الحرب فرصة لاستعراض أحد جوانب قوتها وتطور ترسانتها العسكرية على صعيد تطوير الطائرات المسيرة الهجومية.
في خضم هذا الواقع اعتقد أن النظام الإيراني قد قرأ المشهد الصراعي بين حماس الإرهابية ودولة إسرائيل بطريقة خاطئة تماماً حيث اعتبر أن فشل الجيش الإسرائيلي في القضاء على حركة حماس الإرهابية بسرعة انعكاساً لقوته العسكرية والقتالية بشكل عام، وهذا تقدير استراتيجي خاطىء ويغيب أهم عناصر المشهد وهو سمات الحرب اللا متماثلة أو غير التقليدية، وقفزت إلى أذهان قادة الحرس الثوري مشاهد انسحاب الجنود الأمريكيين من افغانستان، وكذلك مشاهد الحرب الإسرائيلية في لبنان عام 2006، وسعوا إلى استنساخ هذه المشاهد والسيناريوهات بمعنى الحاق الهزيمة بالجيش الإسرائيلي من خلال الهجمات الإرهابية لمليشيا حماس الإرهابية بالداخل الإسرائيلي والاسناد الذي حصلت عليه من خلال الأذرع الإيرانية في لبنان والعراق واليمن.
أحد المنعطفات المهمة في هذا المشهد الصراعي هو اغتيال حسن نصر الله تحديداً، وهو حدث يفوق في تأثيره على إيران اغتيال اسماعيل هنية بمراحل لإعتبارات عديدة منها طائفية بإمتياز، حيث تحسس قادة النظام الايراني رقابهم ليس لأهمية نصر الله ضمن هرمية مشروع التوسع الايراني الاقليمي فقط وهذا مؤكد، ولكن لأن أسلوب الاغتيال المميز ذاته قد بعث برسالة دقيقة وواضحة لقادة النظام الإيراني بأن من الممكن ان تصل إليهم دولة إسرائيل بالطريقة نفسها، ناهيك عن امكانية الوصول إلى المنشآت النووية الإيرانية بالغة التحصين، حيث طالت القنابل التي قصف بها مقر نصر الله عمقاً يبلغ عشرات الأمتار تحت الأرض، لدرجة أن زعيم حزب الله لم يقتل بشكل مباشر بالقصف الإسرائيلي بنحو 85 قنبلة تبلغ كل منها نحو طن، بل قتل جراء تدمير نحو ثمانية أدوار للمبنى تحت الأرض ناهيك عن ستة أدوار أخرى هي ارتفاع المقر فوق الأرض.
بلاشك أن ما حدث من اختراقات إستخباراتية وتجنيد جواسيس في عمق مليشيا حزب الله ثم اغتيال قياداته وفي مقدمتهم حسن نصرالله كان مفاجئاً تماماً للقيادة الإيرانية، وأربكها ووضعها في موقف لا تحسد عليه داخلياً وخارجياً، حتى أنها للمرة الأولى لم تستطع ان تلوذ بفكرة الصبر الاستراتيجي، نظرا لضخامة الحدث فضلاً عن كونه أعقب أحداث كبرى نالت من سمعة إيران وكبريائها الوطني وزلزلت صورتها الذهنية، وبالتالي فقد توصلت إلى شن هجوم صاروخي ضد دولة إسرائيل الذي لم تجد له بد للابقاء على النظام الذي وجد نفسه محاصراً بنظرات والسخرية والاحتقار في عيون مواطنيه ومؤيديه في الداخل والخارج. ومن ثم فإن الهجمة الصاروخية الايرانية قد وفرت للنظام الإيراني "قبلة حياة" جديدة، لذلك نجده يصارع الآن من أجل تفادي العودة إلى ماقبلها في حال قررت دولة إسرائيل الرد على هذا الهجوم وقامت بقصف منشآت البرنامج النووي الإيراني أو اغتيال بعض قادة النظام وخاصة المرشد الإيراني علي خامنئي أو قيادات الحرس الثوري بما يضطر النظام للدخول في دوامة الحرب بشكل مباشر وهو ما يحاول تفاديه، أو عدم التورط فيه مطلقاً.
مايحدث الآن أن دولة إسرائيل قد أزالت الستار الذي يتخفى ورائه النظام الايراني في صراع بالوكالة معها، حيث تسعى إلى دفعه لارتداء القفاز والدخول مباشرة إلى حلبة الصراع العسكري، وبالتالي يصبح أمام النظام الإيراني أحد سيناريوهين كل منهما أسوأ من الآخر، أولهما الاستسلام للأمر الواقع والدخول في مواجهة مباشرة مع دولة إسرائيل مع السعي للحد من نتائجها عليه، والخروج بأقل قدر من الخسائر، وهذا أمر يتوقف على ما يفكر فيه رئيس الوزراء الاسرائيلي نتنياهو سواء بتوجيه ضربة قاضية للنظام الإيراني أو بالاكتفاء بتجدينه ونزع مخالبه. السيناريو الثاني هو فتح قنوات دبلوماسية عادلة مع الولايات المتحدة من أجل اقناع دولة إسرائيل بعدم الرد على الهجوم الايراني الأخير مقابل وعود إيرانية بالقبول بلجم وكلائها ونزع أسلحتهم وربما الاكتفاء بهذا الحد من استراتيجية الحرب بالوكالة في إطار صفقة أشمل تتضمن البرنامج النووي الايراني، وهو السيناريو الأقل احتمالاً لأن إدارة الرئيس بايدن وإسرائيل لن تقبلا به في ظل رجحان كفة دولة إسرائيل في الظروف الراهنة ووجود رغبة عارمة لتحين الفرصة لانهاء التهديد الإيراني من دون الاضطرار لدفع كلفة استراتيجية باهظة تتمثل بالاساس في القبول بالمشروع النووي الايراني، الذي يمثل أحد الركائز الأساسية في الصراع الراهنة سواء مع الولايات المتحدة أو دولة إسرائيل أو كلاهما معاً.