قلنا منذ مقتل إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس الإرهابية أن إيران لن ترد ولن تنفذ تهديداتها، وأن من ينتظر ترجمة هذه التهديدات إلى أفعال فسينتظر كثيراً، وأن مصير النظام ومصلحته أهم لدى المرشد الأعلى علي خامنئي من كل المرتزقة والإرهابين أمثال " هنية وإبراهيم رئيسي وقاسم سليماني وفؤاد شاكر " وغيرهم والقائمة تطول. وكل مايشغل نظام الملالي منذ وقوع عملية الاغتيال الأخيرة هو البحث عن مخرج يراه مناسباً لحفظ ماء الوجه، أو حتى من دون حفظ ماء الوجه الذي اريق مرات عدة ولم يعد للبحث عن طريقة لحفظه معنى أو مغزى.
ماذا فعلت إيران حتى الآن لتنفيذ تهديداتها بالرد والعقاب القاسي الأليم وغير ذلك؟ ما حصل أنها تحدثت مع وسطاء كثر تدخلوا لوقف التصعيد إقليمياً، وهذا بحد ذاته يلبي أحد جوانب الغرور والغطرسة الفارغة التي يعانيها النظام الإيراني، وتحدثت تلميحاً وتصريحاً عن رغبتها في "تأجيل" الرد على الاغتيال من أجل منح فرصة لمفاوضات وقف الحرب في غزة، ولكن الأهم، برأيي، أنها خرجت مؤخراً لتكشف تفاصيل جديدة حول عملية اغتيال هنية، حيث قال وزير الاستخبارات الإيراني إسماعيل خطيب، إن التقارير تشير إلى عدم تورط عناصر داخلية في عملية اغتيال هنية، وأضاف: "وفق التحقيقات، جرت هذه العملية الإرهابية بقذيفة قصيرة المدى برأس حربي يزن 7 كيلوغرامات تقريبا من خارج حدود مبنى إقامة الضيف (هنية) وأدى إلى وقوع انفجار شديد"، ولم ينس خطيب أن يكرر التهديد بأن "العقاب الأليم والصعب سيكون في الزمان والمكان المناسبين".
المؤكد أن هذا التصريح مهم للغاية لأن يعكس رغبة عميقة لدى النظام في تبرئة ساحة الحرس الثوري من الخيانة والتواطؤ، رغم أن هذه ليست اتهامات عفوية بل وردت في أهم صحيفة تعبر عن النظام وهي صحيفة "جمهوري إسلامي"، التي تساءلت عقب العملية مباشرة عن " كيفية وصول إسرائيل إلى هنية بهذه السهولة، وفي قلب العاصمة طهران"، وقالت إن "سهولة الوصول إلى الأهداف وتصفيتها بهذه الشكل يؤكد وجود اختراق ومندسين داخل هذه المجموعات الأمنية المكلفة بحراسة المسؤولين والقادة العسكريين الكبار"، وأضافت بأسلوب لافت "يجدر بنا أن نطهر أنفسنا من وجود المندسين ونعاقبهم، لكي نمع تكرار مثل هذه الاغتيالات، موضحة أن "المندسين وعملاء إسرائيل يترقون في إيران إلى أعلى المناصب من خلال الخداع والغش الذي يمارسونه في الداخل الإيراني"، وكنت اعتقد أن هذا الكلام يمهد لعدم الرد على عملية الاغتيال ويوفر للنظام حجة لتبرير موقفه بدعوى تطهير الجبهة الداخلية، ولكن يبدو أن قدرة النظام على تحمل الاهانات قد فاق توقعاتي ـ كمراقب ـ بمراحل ـ فقد تخلى عن فكرة وجود الغطاء أو المبرر للصمت، بل وقام بتبرئة ساحة الجميع من التورط في هذه العملية.
ماسبق يقودني إلى احتمالين أساسيين أحدهما يتمثل في تورط النظام نفسه بشكل رسمي في تدبير عملية مقتل هنية، وهو سيناريو ورد في بعض التحليلات والتقارير، ولكني لا أرجحه شخصياً، والاحتمال الثاني هو عدم قدرة النظام على الإصلاح الداخلي، ورغبته في تفادي فتح الملفات الشائكة وتطبيق مبدأ المحاسبة والمكاشفة مهما كانت النتائج لعلمه بأن هذا الأمر سيعجل بانهيار أركان النظام بالكامل لسبب بسيط هو أن الحرس الثوري مؤسسة يطغى عليها الفساد وتسيطر على اقتصاد البلاد بالكامل، ومن الصعب في حالة كهذه فتح ملفات المحاسبة المتداخلة ويصعب الفصل بينها بشكل قطعي.
بلاشك أنه جاء آوان البوح والحديث الصريح، وجاء المرشد الإيراني ليختزل موقف بلاده الراهن من مسألة الرد على اغتيال هنية، ويقطع الشك باليقين، حين قال منتصف شهر اغسطس الماضي أن "التراجع غير التكتيكي في أي مجال، سواء كان المجال العسكري أو المجال السياسي والإعلامي والاقتصادي، سيؤدي إلى غضب الله"، ما يعني ضمناً أن المقبول أن يكون التراجع تكتيكياً، وهو خيار محبذ في هذه الحالة كونه يجلب رضا الله (عزوجل) برأيه، وهو ما لم يقله أو المسكوت عنه في حديثه، بمعنى أنه خامني تحدث عن رفض التراجع غير التكتيكي باعتباره مجلبة لغضب الله، فيبدو مفهوماً أنه يحبذ التراجع التكتيكي، وهو مايحدث حرفياً أمام أعيننا، وعلينا أن نستخلص من كلامه هذه النتيجة، ولهذا لم يكن مستغرباً أن تخرج بعض الصحف الإيرانية عقب حديث خامنئي لتدافع عن قرار عدم مهاجمة إسرائيل واعتبار ذلك تراجعاً تكتيكياً واصفة إياه بالخطوة الذكية والقرار الحكيم!.
بلاشك أيضاً، أن هذا القرار من واقع حسابات المصالح الاستراتيجية الإيرانية هو قرار عقلاني صائب ولا يمكن التشكيك في ذلك إذا نظرنا للأمر من زاوية سياسية محضة، لأن النظام كان سيدفع حتماً ثمناً باهظاً لمغامرته التي قد تنتهي به إلى مصير صدام حسين، ولكن من العقلانية والصواب كذلك وقف هذه العنترية الفارغة والشعارات الكاذبة على الأقل لأنها بضاعة فاسدة وأحاديث إفك لم تعد تنطلي على أحد في منطقتنا أو خارجها.
قناعتي الراجحة أن النظام الإيراني يتهرب ويناور ويحاور من أجل الافلات بقدرات نووية يعتبرها مشروعه الأكبر والأهم، الذي يضمن له الحماية والحصانة ممن يعتبرنهم أعدائه، وسيفعل من أجل ذلك كل الممكنات المتاحة، حتى وإن بدا في بعض الأوقات مستباحاً كثير الكلام قليل الفعل، ولن يوفر لإسرائيل الفرصة للقضاء على هذه القدرات في عملية استباقية اجهاضية، ويرى ذلك عين العقل والصواب وجوهر مبدأ "التقية السياسية" الذي ضمن للنظام البقاء منذ عام 1979 حتى الآن.