تعاني تركيا في العقود الأخيرة أزمة هوية واضحة، فلا هي نجحت في الارتباط عضويًا بحلمها الغربي الأثير، بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، بعد أن كانت قاب قوسين من هذه العضوية لولا اعتراض بعض الدولة الرئيسية الأعضاء في الاتحاد، ولا هي استطاعت الانصهار مجددًا في محيطها التاريخي الاسلامي بل أصبحت أكثر عزلة ورفضًا في إطار هذا المحيط بسبب سياسات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي يقود حزبًا يقال انه ذو مرجعية إسلامية، في حين أنه نجح بامتياز ـ لاسيما في السنوات الأخيرة وحتى الآن ـ في بناء الحواجز الشاهقة بين تركيا والدول والشعوب الاسلامية!.
من المعروف عن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان نهجه الشعبوي، وإجادته اختلاق الأزمات لصرف الأنظار عن إشكاليات وأزمات داخلية، وقد جاء قرار تحويل متحف "آيا صوفيا"إلى مسجد عاكسًا بجدارة لهذا النهج الشعبوي الذي يهدف إلى حشد الكتلة التصويتية الداعمة لحزب العدالة والتنمية وراء أردوغان مجددًا بعد ان تراجعت أسهمه وفقد الكثير من شعبيته إثر تدخلاته العسكرية المهلكة في سوريا وليبيا وما تسببت به سياساته من كوارث اقتصادية وضعت الشعب التركي في مواجهة تدهور حاد في مستويات المعيشة، التي انعكست في ردود أفعال غالبية الأتراك حيال سياسات رئيسهم عبر السوشيال ميديا التي وصفها أردوغان بأنها "خطر على الأمة"!.
المؤكد أن مثل هذه القرارات الانفعالية لن تضع تركيا على زعامة العالم الاسلامي ولن تسهم في جعل أردوغان قائدًا للمسلمين ومدافعًا أول عن الدين الاسلامي كما يعتقد، فالغالبية العظمي من المسلمين تدرك حقيقة دوافع مثل هذه القرارات ذات الأبعاد السياسية التي تحاول توظيف الدين من أجل تحقيق مصالح استراتيجية للأفراد والتنظيمات والأحزاب.
لا يمكن لأردوغان أو غيره بطبيعة الحال إعادة استحضار الإرث العثماني، فالتاريخ لا يلمس مياه النهر ذاته مرتين، ولا يعيد نفسه في مثل هذه الحالات، فلا العالم هو العالم ولا تركيا نفسها هي السلطنة في زمانها، وبالتالي فكل ما يفعله الرئيس التركي ليس سوى هدر لموارد ومصالح الدولة والشعب التركي في صراعات وهمية ومغامرات عبثية لن يحصد من ورائها شيئًا!.
لا يمكن لتركيا في ظل واقعها الحالي معالجة أزمة الانتماء والهوية التي تعانيها، فهي بحاجة إلى بناء سياسات تصالحية ورؤية واقعية تراعي فيها المعطيات الاستراتيجية وتنأى فيها الدولة التركية بنفسها عن المصالح الضيقة للتنظيمات الأيديولوجية التي لا يمكن لها أن ترتهن الحراك التاريخي لدولة بوزن ومكانة تركيا، فلا بد من تفكيك العلاقات المصالحية الحزبية الضيقة، كما تبدو في الارتباط العضوي الأيديولوجي بين حزب العدالة والتنمية الحاكم من جهة وتنظيم الإخوان المسلمين من جهة ثانية، ومنح المصالح القومية التركية أولوية قصوى كي يمكن بناء رؤية وطنية جامعة تحفظ لتركيا دورها ومكانتها بعيدًا عن التوجهات الفردية كما في الحالة الأردوغانية.
تركيا التي تبحث عن جذورها وجوهرها وهويتها وذاتها منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، لا تزال تنظر حائرة شرقًا وغربًا، ولاشك أن قضية آيا صوفيا تعيد فتح ملف الهوية التركية بكل معاناته وآلامه مجددًا، فالعمق الاستراتيجي التركي كما أسماه وزير خارجيتها ورئيس وزرائها الأسبق أحمد داود اوغلو هو جوهر هذه الأزمة، فقد غرس في الوعي السياسي التركي الفكرة القائلة بصعوبة حصر تركيا في داخل محيطها الجغرافي، واعتبر أن إرثها الاستعماري يبقى جزءًا لايتجزأ من استراتيجيتها الخارجية، بمعنى أن عليها التحرك خارجيًا في إطار حدود هذه الإرث طالما استدعت المصالح التركية ذلك! وهذا هو ما يفسر تدخلات تركيا التوسعية الحالية في سوريا وليبيا، وهي تدخلات تجلب عليها نقمة العالم الاسلامي، وهذه الرؤية الضيقة هي عامل مشترك يحرك سياسات حزب العدالة والتنمية ككل وليس الرئيس أردوغان فقط، فالمعضلة الأساسية تكمن في قناعات وفكر هذا الحزب الذي يريد تغيير ملامح ومرتكزات الهوية التركية التي استقرت منذ عشرينيات القرن الماضي، وقد جاء قرار "آيا صوفيا"في إطار هذا النهج الذي يسعى لامتلاك مقومات الزعامة والقيادة في العالم الاسلامي بحثًا عن هوية مفقودة!