اتابع طيلة الفترة الماضية بعض مقالات كتاب الرأي ووسائل الاعلام العربية والمحللون الذين يرون أن سياسات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تمثل خروجاً عن نهج حزب العدالة والتنمية التركي، معتبرين أن " السلطات الديكتاتورية" التي منحها الرئيس التركي لنفسه في التعديل الدستوري هي السبب في انحراف سياسات الحزب عن مسارها ونهج مؤسسي الحزب مثل أحمد داود اوغلو مهندس سياسة "صفر مشكلات".
ولأنني اثق أن الخلاف بين أردوغان ورفاقه وحلفائه القدامي هو خلاف حول التكتيك وليس الاستراتيجية على مسائل ثانوية وليست أساسية، فقد كنت استغرب لتهليل وسائل الاعلام في منطقتنا العربية والخليجيية لظهور اوغلو مجدداً على الساحة السياسية التركية كمنافس محتمل في وجه حليفه وصديقه السابق أردوغان.
وبالأمس، قرأت تصريحاً لأحمد داود أوغلو، رئيس وزراء تركيا السابق ورئيس حزب "المستقبل" المعارض، يقول فيه "إن تهديدات الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، والرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، تعكس "عمى استراتيجياً"، وفي كلمة مصورة، نشرها عبر وسائل التواصل الاجتماعي هاجم داود أوغلو ما زعم أنه "تهديد السيسي للإدارة الليبية بالاحتلال العسكري"، كما هاجم بشدة ما قال إنه "تهديد ماكرون بزج الناتو والاتحاد الأوروبي في مواجهة تركيا".
وقال اوغلو إن تلك التصريحات "ليست مؤسفة فحسب، بل تبدي للعيان العمى الاستراتيجي الذي يعانيه كلا اللاعبين"، واللافت أن اوغلو الذي يهلل له بعض العرب لمجرد كونه بات منافساً لأردوغان، وباعتباره صاحب النظرية البائدة التي انقلب عليها السلطان، قد اثنى على سياسات تركيا في الملف الليبي، قائلا " الدعم الذي تقدمه تركيا إلى حكومة الوفاق الوطني الشرعية المعترف بها في الأمم المتحدة هو شرعي وسليم"، وقال اوغلو "لا يمكن إنشاء نظام في شرق المتوسط بتجاهل تركيا" مشددا على أن أي معادلة للأمن والطاقة في المنطقة، تستثني بلاده، لا يمكن أن تستمر، من الناحية الاستراتيجية. وطالب اوغلو فرنسا والاتحاد الأوروبي بالإجابة على ما إذا كان تواجد بلاده، العضو بالناتو، في ليبيا، يشكل تهديدًا على أمن الناتو والاتحاد الأوروبي، أم تواجد روسيا والإمارات ودول أخرى.
لا تحتاج هذه الكلمات إلى تحليل سياسي مستفيض كي ندرك منها أن الحليفين السابقين ينطلقان من رؤية استراتيجية واحدة بل من عمى استراتيجي واحد، ولديهما أيديولوجية مشتركة تؤمن باستعادة الإرث الاستعماري التركي، وأن من انقلب على نظرية "صفر مشاكل" هو صاحبها ذاته قبل أن ينقلب عليها حليفه السابق! فلم يعد اوغلو يؤمن بفكرة تصفير المشاكل كسبيل لتحقيق احلام الشعب التركي في التطور والتقدم والبناء، بل بات ينتهج سياسة تدخلية توسعية تنتهك القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة كي تضمن بلاده مصالحها، فهو لا يرى في تدخل تركيا في ليبيا أي انتهاك لسيادة هذا البلد العربي، بل ينظر فقط إلى الوجود العربي في بلد عربي دفاعاً عن أرض عربية وشعب عربي خطراً على حلف الأطلسي!
وللتذكير فإن انشقاق اوغلو عن حزب العدالة والتنمية لم يكن انشقاقاً على قناعات وسياسات واتجاهات أيديولوجية للحزب، بل كان تمرداً على رغبة السلطان في الانفراد بكعكة السلطة والحكم واقصاء حلفائه القدامي، أصحاب الفضل في صعوده السياسي، وبالتالي فهو خلاف قشري وصراع شخصي لا خلاف على مبادىء وسياسات، وعلينا أن نتذكر جيداً أن استقالة اوغلو من الحزب الحاكم في عام 2019 لم تكن بسبب اعتراض على سياسات أردوغان تجاه سوريا ولا تدميره لعلاقات تركيا مع جوارها العربي، بل كانت بسبب "ما رآه من تغيرات في أولويات وخطابات وسياسات إدارة حزب العدالة والتنمية"، معتبراً أن "الحزب ابتعد عن قيمه وخطاباته وسياساته، وأولوياته قد تغيرت".
لم يكن اوغلو يغضب من انتهاك الحريات كما ادعى ذات مرة في تفسيره للانشقاق من حزب العدالة والتنمية، فهو من أرسل رسالة لقادة العالم حينما كان في منصبه يبرر فيها اعتقال الآلآف من المئات الجيش التركي وضباطه مبرراً ذلك بأن "إرهابيين متوغلين في القوات المسلحة التركية حاولوا في ليلة الخامس عشر من يوليو، الإطاحة برئيس البلاد والحكومة وإغلاق البرلمان والنظام الدستوري" وأن "إحباط الانقلاب الفاشل تم بفضل القيادة القوية للرئيس أردوغان، والشعب التركي الذي ضحى بشهدائه في مواجهة مروحيات ودبابات الانقلابيين بكل شجاعة."
الحقيقة أن اوغلو غاضب من أردوغان منذ أن قرر الأخير اقالته من منصب رئيس الوزراء ورئاسة حزب العدالة والتنمية في عام 2016، حيث اعرب علناً عن ندمه لعدم اختياره الكفاح ضد استبداد أردوغان، وسبق أن صرح في حديث أدلى به للكاتب التركي مراد يتكين أنه كان يجب أن يصر على قائمة القيادات التي أعدها للعرض على المؤتمر العام للحزب الحاكم في 12 سبتمبر 2015، مبدياً ندمه لقبول القائمة التي أعدت وقتذاك بتعليمات من أردوغان! ومبرراً رضوخه بالرغبة في تفادي ظهور انقسامات داخل الحزب في وقت "كانت البلاد تمر فيه بمرحلة حرجة في مكافحة الارهاب"، وقد اعترف اوغلو بأن انقلاب حزب داخلي قد تسبب في مغادرته منصبي رئيس الوزراء والحزب ومعترفاً بالخطأ في ثقته بزملاء داخل الحزب! ولم يكن يتوقع أن الرفاق الذين يثق فيهم سيوقعون نص اقالته وتجريده من مناصبه استجابة لتعليمات السلطان!
المسألة كلها إذن صراع مصالح ومحاولة لاثبات الذات ورد الاعتبار السياسي من جانب اوغلو في مواجهة صديقه وحليف دربه أردوغان والرفاق القدامي، وعلينا كعرب ـ ولاسيما الاعلاميين والمحللين ـ أن نتفهم قليلاً محركات السياسة التركية ومجرياتها كي لا نقع مجدداً في فخ التهليل لأشخاص لا يختلفون مطلقاً عن المتصدرين للمشهد الذين يغتالون أحلام أشقائنا الليبيين في معيشة كريمة ووطن مستقل، وقد شاهدنا الآن أنه في لحظة واحدة تخندق اوغلو سياسياً مع حليفه القديم أردوغان مهاجماً من يدافعون عن الشرعية الدولية وسيادة ليبيا! فهل هناك من يرى بعد الآن أن أوغلو، الذي غادر نظرية تصفير المشاكل وعاد بنظرية العمى الاستراتيجي، هو البديل المنقذ الذي ينتشل تركيا من أحلام السلطان واوهامه؟!