لم يكن ينقص الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ليثبت ولعه وشغفه بعودة حقبة السلطنة العثمانية بكل كوارثها التاريخية، سوى هذا القرار الذي أشعل به فتيل صراع حضارات كافح العقلاء في العالم كثيراً خلال السنوات القلائل الماضية، كي ينطفىء.
من المعروف أن صدام أو صراع الحضارات هو تلك النظرية البغيضة التي قال بها صمويل هنتجتون في عقد التسعينيات ليؤطر من خلالها رؤيته لعالم مابعد طي صفحة الحرب الباردة إثر تفكك الاتحاد السوفيتي السابق، معتبراً أن العالم سيشهد حروباً على أسس ثقافية وحضارية ودينية، ومشيراً إلى صراعات بين المسلمين وأصحاب الديانات الأخرى زاعماً بأن الاسلام يمتلك "حدوداً دموية" ، وحصلت هذه النظرية على قوة دفع من ممارسات "داعش" وأخواتها من تنظيمات الارهاب في مناطق شتى من العالم. ولأن دعاة الصراع بين الحضارات قد تراجعوا إثر هزيمة تنظيمات الارهاب واستئصال جذورها من العراق وسوريا، فإن المرجعية الأيديولوجية الضيقة للرئيس التركي أردوغان قد غلبت عليه ودفعته لمنح دعاة الفتنة بين الأديان وإشعال الصراعات الدينية جرعة أوكسجين جديدة بقرار في غاية الغرابة من حيث الموضوع والتوقيت في آن واحد؛ حيث قرر أردوغان إعادة تحويل متحف "آيا صوفيا" إلى مسجد.
لم يدرك الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، حتى الآن أن ما يعتبره خطأ لا يعالج بخطأ مضاد، فأحيانا لا يمكن تصحيح ما يعتقد البعض أنه أخطاء بإعادة الأشياء إلى أصلها، حيث يقول أردوغان في تبرير قراره إن سلطات بلاده هي من حولت آيا صوفيا إلى متحف بقرار خاطئ في الماضي، مضيفا "ها نحن نعيده إلى مسجد مجدداً" بعد أن تلقف حكم المحكمة الإدارية العليا التركية، بالغاء قرار مجلس الوزراء الصادر في 24 نوفمبر 1934، القاضي بتحويل "آيا صوفيا" من مسجد إلى متحف.
لم يكتف أردوغان بذلك بل تحدث في إطار رده على الانتقادات الغربية لقراره كرجل دين وليس رجل دولة، وفي أحسن الأحوال يبدو أنه يحاول ارتداء ثوب السلطان أو الخليفة الذي يحلم به ليقوم بخلط "الديني" بـ" السياسي" في خطابه الرسمي المعبر عن الموقف الرسمي التركي، حيث أشار إلى أن دور العبادة لغير المسلمين في تركيا تفوق 4 أو 5 أضعاف عدد المساجد في أوروبا، وأن هناك دار عبادة واحدة لكل 460 شخصا غير مسلم في تركيا، مقابل مسجد واحد لكل 2000 مسلم في أوروبا.
يقول أردوغان أن القرار هو حق سيادي لتركيا، وهذا صحيح ولكن في حالات اخرى لا تحيط بها مثل هذا الكم الهائل من الحساسيات السياسية والدينية، والمسألة هنا لا تتعلق بحقوق الدول والشعوب بقدر ماتتعلق بالأمن والسلم الاجتماعي والتعايش بين الأديان في تركيا ذاتها قبل أن تكون في دول أخرى!
والحقيقة أن موقف أردوغان في قضية "آيا صوفيا" نابع من حسابات سياسية شخصية بحتة ولا علاقة لها البتة بالإسلام ولا المسلمين، فلن يزيد المسجد الاسلام في تركيا قوة ولن يخصم من أعداء الاسلام شيئاً، بل سيسهم فقط في فتح جبهة صراع جديدة بين الاسلام والأديان الأخرى ويمنح اليمين المتطرف في أوروبا ذريعة جديدة للهجوم على الاسلام والعمل ضد المسلمين وتغذية تيار الاسلاموفوبيا في الغرب بشكل عام.
الحقيقة أيضاً أن الاصطفاف العاطفي الانفعالي الذي طغى على الكثير من ردود الأفعال في الدول العربية والاسلامية حيال قرار أردوغان قد انشاق وراء شعارات الاسلام السياسي التي لا تزال تتاجر بأحلام الشعوب وتدغدع عواطف البسطاء بالشعارات الدينية والحنين الجارف للماضي.
اللافت في الأمر أن الرئيس أردوغان ذاته كان في الماضي القريب من معارضي إعادة تحويل المتحف إلى مسجد ، ولكن يبدو أنه تلقف حكم المحكمة ووجد فيه ما يمكن ان يساعده في ترميم شعبيته المنهارة، ولو من خلال قرار محفوف بالأخطار والمجازفات، كما وجد فيه فرصة سانحة للانتقام من الرفض الغربي الواسع لسياسات تركيا الأردوغانية، ورفض انضمام تركيا للاتحاد الأوروبية وإغلاق أبواب أوروبا في وجهها بشكل نهائي.
ومن تابع الخطاب السياسي الصادر عن قيادات حزب العدالة والتنمية التركي الحاكم احتفاء بقرار "آيا صوفيا" يلمس فيه بسهولة روح تنظيمية أيديولوجية ضيقة وليست سياسية أو حتى حزبية، فالحديث كله يدور حول تحرير المسجد وتحقيق نصر للإسلام وأن ذلك يمهد لاستعادة مساجد المسلمين في الاندلس وأوروبا وغير ذلك من الشعارات التي ترفعها التنظيمات المتطرفة في صراعها مع شعوبها والعالم أجمع! وهو الخطاب الأيديولوجي المعهود للجماعات الارهابية المتطرفة، وخاصة الإخوان المسلمين.
أخطر مافي هذا القرار العبثي أنه يعيد تركيا إلى صراعات الهوية مجدداً، حيث يشعل الصراع حول الدين وموقعه في البناء السياسي للدولة، ويثير الشكوك بقوة حول العلمانية التي كانت أساس استقرار الدولة المركزية التركية منذ بدايات القرن العشرين وحتى الآن. كما يغامر اردوغان باستقرار بلاده في سبيل انقاذ شعبيته المأزومة، ويدغدغ عواطف ملايين البسطاء بقرار لن يضيف إلى تركيا وشعبها سوى المزيد من العزلة والأعداء، وهي خطوة تمثل بالفعل لعباً بالنار ولا تصدر عن رجل دولة قادر على تقدير المواقف وبناء التقديرات الاستراتيجية الصائبة حول نتائج القرارات التي يتخذها.