لا يمكن وصف موقف "السلطان" التركي رجب طيب أردوغان ورؤيته لما يحدث في ليبيا سوى بأنه تعبير عن منطق أعوج، فتركيا ترفض أي دور عربي في بلد عربي، وتبرر لنفسها تدخلها الاستعماري البغيض في ليبيا وسوريا والعراق باعتباره صوناً للأمن القومي التركي وحماية له!
الكيل بمكيالين ولي ذراع الحقائق وخلط الأوراق والتلاعب بالحقائق، ومحاولات خداع البسطاء والمغرر بهم، كلها عناوين صحيحة ومعبرة تماماً عن منطق تركيا الأعوج والمغلوط في قضايا المنطقة العربية، فالثابت أن تركيا قوة استعمارية سابقة، ولو اعتبرنا ـ كما يجادل السلطان وحاشيته ـ أن لكل قوة استعمارية الحق في التدخل في مستعمراتها السابقة لتحول العالم إلى ساحة من الفوضى والانتهاكات المنافية للقانون والشرعية الدولية التي ارتضاها المجتمع الدولي حكماً وغطاء لسلوكيات الدول في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية وتصفية الحقبة الاستعمارية.
أردوغان يندد بدور مصر في ليبيا، ويصف دعم القاهرة للجيش الوطني الليبي بأنه "غير شرعي، في حين يبرر تدخل جيشه وميلشياته ومرتزقته في هذا البلد العربي بالقول "علاقاتنا مع ليبيا تمتد لأكثر من 500 عام، ولن نترك أشقاءنا الليبيين وحدهم ... سنواصل تحمل المسؤولية التي أخذناها على عاتقنا في ليبيا كما فعلنا لغاية اليوم"، والحقيقة أن تصريحات "السلطان" تعني عودة مكشوفة للحقبة الاستعمارية، التي عاني خلالها الشعب الليبي على يد العثمانيين القدامى في القرن السادس عشر،
وبالعودة للتاريخ، ولا ادرى سر حديث أردوغان عن "وجوب" التواجد في ليبيا والقتال هناك "الآن"، ولا قوله أن هناك مليون تركي يعيشون في ليبيا الآن ! ولا تفسير لذلك سوى انصياعه التام لدعوات حلفائه الإخوان الارهابيين ومغالطاتهم في تزوير تاريخ الدول ومحاولة شرعنة الاستعمار العثماني الجديد، وكأن أكثر من ثلاثة قرون من الاحتلال لا تكفي لنهب ثروات الشعب الليبي والقتل والمذابح وغير ذلك من الروايات الموثقة التي تمتلىء بها كتب المؤرخين الموثوقين حول ممارسات العثمانيين القدامي في ليبيا، وكأن ذلك لم يكن كافياً حتى يعود لهذا البلد العربي عثمانياً جديداً بأطماع جديدة وأحلام قديمة!
قصص جرائم العثمانيين في ليبيا تصنفها كواحدة من أبشع الحقب الاستعمارية على مر التاريخ، والمجال لا يكفي هنا لسرد ولو القليل منها لما تنطوي عليها هذا القصص من انتهاكات وجرائم بشعة، والأمر لايحتاج كثيراً للتذكير بها والاستدلال عليها، فضغطة زر واحدة على محرك البحث الشهير "جوجل" تكفي للتعرف على أهوال تلك الحقبة البغيضة وجرائمها، ولكن المعضلة أن "السطان" ينسى أحياناً أن الشعوب تمتلك ذاكرة حية، وأن مثل هذه الجرائم لا تسقط في الوعي الجمعي للشعوب حتى وإن سقطت بالتقادم جنائياً.
يتحدث "السلطان" عن ليبيا وكأنها محمية تركية فيقول إن تركيا "لن تسمح بأي عمل متهور في ليبيا"، فيما يحذر المسؤولون الأتراك من عواقب نشر أي قوات مصرية في تركيا، باعتبار ذلك "سيشكل خطورة على القاهرة نفسها" وفي ذلك يقول مستشار الرئيس التركي إن أي تدخل في ليبيا سيكون "مغامرة عسكرية خطيرة بالنسبة لمصر"، وهو حديث لا يعبر سوى عن غطرسة وعنجهية عثمانية لا يمكن القبول بها عربياً لأنها تعكس مستوى غير مسبوق من الجرأة والتجاوز في حق الشعوب العربية وكرامتها، كما تعبر كذلك عن انكشاف أبعاد المشروع التركي الاقليمي الذي يستهدف قضم الكثير من الأراضي والثروات والحقوق العربية، ويبدو من الواضح أن تركيا تسعى الآن لتنفيذ هذا المشروع بنفسها بعد أن سعت وفشلت في تنفيذه منذ عام 2011 عبر وكلائها من تنظيم "الإخوان المسلمين" الارهابي.
صحيح أن لتركيا الحق في حماية مصالحها والدفاع عن أمنها القومي، ولكن ذلك لا يعني مطلقاً الافتئات على حقوق وموارد وثروات الشعوب العربية، واستباحة أراضي سوريا والعراق وليبيا بدعاوى مختلفة وأكاذيب متنوعة، فالاحتلال التركي لأجزاء من أراضي هذه الدول الثلاث يجب ان يتوقف وأطماع تركيا في الغاز والنفط على حساب الشعوب العربية يجب أن تنتهي، ويجب أن نتذكر أن مدعي حماية الأمن القومي التركي الآن قد وقفوا عاجزين في مرات عديدة لاسيما حينما يتعلق الأمر بإسرائيل التي قصفت السفينة "مرمرة" وقتلت ناشطين اتراك في عام 2010 دون رد فعل تركي رغم الغضب الظاهري والضجيج والصراخ التركي عقب الواقعة!
الحقيقة التي يجب الاعتراف عربياً بها أن تركيا تتمدد الآن في منطقتنا لأسباب عدة منها غياب المشروع العربي الجماعي وانهيار الدولة الوطنية في دول عربية رئيسية، ولكن لا يجب أيضاً تجاهل الحقيقة القائلة أن تركيا تستفيد كذلك من أخطاء عربية سمحت بوجودها وتدخلها في سوريا وليبيا بسبب التردد وفشل آليات العمل العربي الجماعي التي سمحت باقصاء سوريا من هذه المنظومة وما يرتبط بذلك من تكريس حالة الفراغ القيادي العربي التي تعانيها أزمات منطقتنا.
ما يجب أن يتذكره الساسة الأتراك الحاليين أنه لا يمكن للشعب الليبي الثقة بنوايا السلطان العثماني الجديد، حتى وإن ادعى أنه يحمي مصالحهم ويدافع عن ثرواتهم، فالليبيين لم يتخلصوا من القذافي حتى يقعوا في براثن المستعمر القديم!