لا يمكن للمراقب سوى أن ينظر للأحاديث المتداولة إعلامياً عن احتمالية نشوب حرب صينية ـ أمريكية سوى بالكثير من الهدوء والتريث لأن التعاطي والتفاعل بحماس مع مثل هذه الفرضيات في الوقت الراهن وفي ظل المعطيات الاستراتيجية القائمة قد يعني ضرورة البحث في فرضية "نهاية العالم" بالنسبة لسكان القرية الكونية الصغيرة.
حديث الحرب بين الصين والولايات المتحدة ليس جديداً ولا عابراً ولا طارئا بالنسبة للمراقبين والمتخصصين، ولكنه ظل حديثاً محصوراً في أنماط غير تقليدية من الحروب والصراعات، فهو حديث قائم بالفعل عن حرب تجارية، وصراعات تقنية وحروب قد تمتد لتأخذ شكل غير تقليدي مثل الفضاء السيبراني وغير ذلك، كما أن سيناريو الحرب التقليدية المحتملة بين المنافسين القطبيين ليس بعيداً عن تفكير دوائر التخطيط الاستراتيجي في البلدين، فبالتأكيد هناك خطط دقيقة وسيناريوهات عدة جاهزة قابلة للتطبيق والتنفيذ الفوري في حال نشوب صراع عسكري تقليدي بين القوتين بعض النظر عن الأسباب والدوافع، وهذه مسألة محسومة بل هي إحدى أبجديات عمل المخططين الاستراتيجيين والقائمين إدارة الصراع القطبي التنافسي في حالات كهذه.
انجراف مسار الحديث في الصراع الصيني الأمريكي من إطاره التقليدي المحصور في دائرة الحرب الباردة الدائرة حالياً إلى تناول امكانية اشتعال حرب تقليدية ضروس قد تنقلب إلى حرب نووية، اشتعل إعلامياً مع تصريحات أدلى بها ستيف بانون كبير المُستشارين الاستراتيجيين للبيت الأبيض سابقًا لقناة "فوكس نيوز"، وكشف فيها عن أن الرئيس دونالد ترامب يمتلك خطة متكاملة لمُواجهة الحزب الشيوعي الصيني ثم إسقاطه، لأن الرئيس ترامب يعيش حالة من "الهوس" أو "الفوبيا" اسمها الصين هذه الأيام، كما يقول بانون.
الخطة التي تحدث عنها بانون وضعها"مجلس حربي" يضم "فرسان نهاية العالم" كما قال وهم : روبرت اوبراين مستشار الأمن القومي، وكريستوفر راي رئيس مكتب التحقيقات الفيدرالي، ومايك بومبيو وزير الخارجية، ووليم بار المدعي العامـ وتتضمن ـ بحسب بانون ـ حرباً تكنولوجية ومعلوماتية واقتصادية، مثلما تتضمن محاولة السيطرة على بحر الصين الجنوبي الذي تدعي الصين أنها تمتلك 90% من مياهه وأجوائه، وربما تكون الذريعة هي معاقبة الصين على نشرها فيروس "كورونا" في الولايات المتحدة والعالم.
الحقيقة أن الحرب التكنولوجية والمعلوماتية والاقتصادية هي حرب مشتعلة على أرض الواقع، ولا تمثل صراعاً بينياً مفتوحاً بين الدولتين بل هي مظهر تنافسي خشن أو شرس يصل لحد إعلان العداء والمقاطعة وفرض الرسوم الباهظة وغير ذلك، إلا إذا دخل الطرفان في حرب سيبرانية مباشرة يوجه كل طرف فيها هجمات الكترونية كبرى ضد الآخر، وهذه لن تقف عند حد الفضاء السيبراني بل ستنجرف حتماً إلى صراع عسكري تقليدي وربما غير تقليدي.، بدليل أن الصين قد ردت على الخشونة الأمريكية الواضحة في الأسابيع الأخيرة بمناورة عسكرية كبرى أجرتها في بحر الصين الجنوبي ـ مسرح العمليات المحتمل لأي مواجهة بين القوتين ـ تضمنت استعراض صواريخ باليستية يراوح مداها بين 3000 ـ 4000 كم، ويمكنها حمل رؤوس نووية أو تقليدية تمكنها من استهداف حاملات الطائرات الأمريكية المتمركزة في قواعد المحيط الهادىء، وسلايما قاعدة "جوام" رأس حربة الجيش الأمريكي في مواجهة النفوذ الصيني.
ثمة دليل آخر على أن الجيوش التقليدية ليست بعيدة عن سجال المواجهة الدائر، منها تصريحات وزير الدفاع الأميركي، مارك إسبر التي قال فيها "إن الولايات المتحدة تقوم بتجهيز قواتها في جميع أنحاء آسيا وتعيد تمركزها استعداداً لمواجهة محتملة مع الصين"، وأوضح إسبر أن الولايات المتحدة ستواصل إرسال سفن بحرية إلى المنطقة لمواجهة سياسات الصين التوسعية، وبيع الأسلحة إلى تايوان، التي تطالب بكين بالسيادة عليها.
البعض ينقل عن خبراء وساسة أمريكيين مخاوفهم من عواقب اندلاع حرب صينية ـ أمريكية وأن الولايات المتحدة ليست في وضع التفوق الذي يضمن لها تحقيق الانتصار الحاسم ولاسيما في المجال السيبراني، ويبرهن هؤلاء على ذلك بالحريق الغامص الذي نشب في الفرقاطة الأمريكية "بون إم ريتشارد" في قاعدة "سان دييجو" واستغرقت عمليات الاطفاء أربعة أيام وتسبب في خروج الفرقاطة من الخدمة لعامين على الأقل لإصلاحها بتكلفة قد تبلغ ثلاثة مليارات دولار، حيث يعتقد أن الحريق قد حدث جراء هجوم سيبراني، ولكن تحليل مثل هذه الشواهد يشير إلى أن قناعة الولايات المتحدة باختلال موازين القوى مع الصين وضعف أثر الاجراءات الاقتصادية التي اتخذتها إدارة ترامب ضد الصين في السنوات الأخيرة (من التعريفات الجمركية على التجارة إلى العقوبات المفروضة على الشركات والمسؤولين)، كل ذلك قد يدفع لتسريع وتيرة المواجهة وليس العكس باعتبار أن الانتظار يعمّق الخلل القائم ويمنح الصين فرصة التفوق على القدرات العسكرية السيبرانية الأمريكية، وهذا الأمر يصب في سلة تأكيد تصريحات بانون.
الواقع أن هناك تصعيد في وتيرة الحرب الباردة بطلب الولايات المتحدة من الصين اغلاق قنصليتها في هيوستن معتبرة أنها "في صلب شبكة تجسس" صينية تنشط بالولايات المتحدة، مادفع الصين للتهديد بالرد لتزداد جبهات الصراع الثنائي التي تشمل ـ حتى الآن ـ طريقة تعامل بكين مع تفشي وباء كوفيد-19، وصولاً لسياساتها في هونغ كونغ واقليم شينجيانغ وبحر الصين الجنوبي.
وقناعتي الراسخة أن مايحدث كله يندرج ضمن إطار الحرب النفسية التي لا اعتقد أنها تؤثر في الجانب الصيني الذي يتكىء على موروث تاريخي هائل، وقناعتي كذلك أن المواجهة العسكرية تبدو مستبعدة تماماً في الوقت الراهن، فلا الولايات المتحدة تريد تسريع وتيرة المواجهة قبل استفحال قوة الصين ونفوذها، ولا الصين تريد استدعاء هذه المواجهة مبكراً لحسم الصراع الاستراتيجي، وما يدور فعلياً ليس سوى محاولة أمريكية لتدجين الصين والسيطرة على نفوذها الاستراتيجي العالمي المتنامي، أو على الأقل الضغط عليها ومحاصرة نفوذها وتعزيز الموقف التفاوضي الأمريكي تمهيداً لوضع قواعد النظام العالمي وإدارة العلاقات الدولية في مرحلة مابعد كورونا.