لم يعد يصلح لوصف ممارسات وسلوكيات النظام التركي في منطقة الشرق الأوسط بشكل عام، والمنطقة العربية بشكل خاص، سوى أنه بلطجة وعربدة إقليمية لا يكاد ينجو منها بلد في منطقتنا المنكوبة بالأنظمة الطائفية، وتلك المهووسة بالأطماع الاستعمارية وأحلام الهيمنة البائدة، سوى أنظمة حكم ارتضت أن ترتمي في أحضان «السلطان» التركي كي يحميها من غضب مكتوم لدى شعوبها مثل نظام «الحمدين» القطري، وما يعرف بحكومة الوفاق في شرق ليبيا!
ورغم أن أراضي العراق لم تكن بمنأى عن تلك العربدة والبلطجة الإقليمية، التي تفشت واتسع نطاقها ليشمل سوريا وليبيا وحوض البحر المتوسط، فإن السلوك التركي حيال سيادة العراق قد انتقل مؤخراً إلى ممارسات هي الأكثر تعبيراً عن العنجهية والغرور التركي، وكذلك فقدان السلطان وحاشيته لبوصلة القرار الرشيد، ومواصلة التورط في ارتكاب المزيد من الحماقات بحق الدول والشعوب العربية، حيث تسبب هجوم شنته «مسيّرة» (طائرة من دون طيار) تركية على موقع عسكري عراقي شمال أربيل في إقليم كردستان في مقتل ضابطين عراقيين.
ورغم أن هذا الاعتداء التركي الغاشم ليس الأول من نوعه على سيادة العراق، فإنه يعكس إصراراً تركياً على تجاهل إرادة وغضب الشعوب العربية من استفحال البلطجة التركية، التي لا يضاهيها سوى السلوك الإيراني البغيض حيال المنطقة العربية، فتركيا تتمركز بقواتها وميلشياتها في عمق الأراضي السورية، وتسيطر على مدن وقواعد عسكرية ليبية، وتجعل من أراضي العراق ساحة مستباحة لطائراتها المسيّرة، فضلاً عن أن علاقاتها مع مصر والمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات لا تغادر مربع التوتر بسبب مساعي تركيا للنيل من أمن مصر واستقرارها، بالإضافة إلى كونها باتت عنصر تقويض وتهديد رئيسي مزمن للأمن والاستقرار العربي، ولا تريد سوى أن تقابل ممارساتها وعربدتها الإقليمية سوى بصمت عربي، وحينما تسمع صوتاً أو ترى تحركاً عربياً يتصدى لهذه العربدة والبلطجة فلا يخرج عنها سوى تهديدات مقيتة وتصريحات سخيفة كتلك التي أطلقها وزير الدفاع التركي خلوصي أكار بحق دولة الإمارات العربية المتحدة!
الحقيقة أن السلطان التركي المغامر لم يعد يراهن، من أجل بقائه السياسي، سوى على مواصلة مخططاتها الغاشمة التي تضع تركيا على حافة صراع دائم مع جوارها الإقليمي، ومن الواضح كذلك أنه بات مخلباً لمخططات ومشروعات استراتيجية دولية تضر بالأمن القومي العربي، وتسعى للنيل من ثروات الشعوب العربية من خلال استخدام السلطان وأحلامه في لعبة تقاسم الثروات والمصالح الاستراتيجية، وهو دور كان البعض يظن أو يعتقد أن تركيا قد تخلت عنه وغادرته منذ طي صفحة الحقبة العثمانية، ولكن المؤكد أن السلطان الحالم باستعادة أمجاد الأجداد تداعبه أوهام تلك الفترة الغابرة من دون أن يعي تغيرات الزمان والمستجدات التي طرأت على الخارطة الزمنية والمكانية للأحداث.
من حق العراق أن يشعر بالغضب الشديد تجاه هذا الانتهاك التركي الصارخ لسيادته وأراضيه، وحسناً فعل بإلغاء زيارة مقررة لوزير الدفاع التركي خلوصي آكار إلى بغداد، واستدعاء السفير التركي لدى بغداد للاحتجاج على هذا الانتهاك، ومن حق العراق كذلك علينا - كعرب - أن نقف داعمين لغضبه وسيادته الوطنية المعتدى عليها، فالعراق لا يمكن أن يكون ساحة عربية جديدة تستبيحها تركيا، في وقت يسعى فيه هذا البلد العربي الكبير إلى ترميم جروحه ومعالجة مشاكله الداخلية واستئناف مسيرته ودوره الإقليمي باعتباره أحد عناصر التوازن في منظومة الأمن القومي العربي المفقود.
ينتظر العراق بالتأكيد دعماً ومساندة عربية قوية للتخلص من الوجود العسكري التركي في شمال البلاد، إذ لا يمكن السماح بمثل هذه الممارسات تحت أي ظرف من الظروف ولأي سبب، لاسيما في ظل وضوح نوايا النظام التركي الحالي ورغبته في قضم الأراضي العربية قطعة تلو الأخرى طالما وجد البيئة الأمنية مهيأة لذلك.
ويجب على السلطان أردوغان أن يعي خطورة اللعب بالنار في هذا التوقيت العربي الصعب، فهو يغامر بوضع تركيا في حالة صراع مستدام مع جيرانها العرب، وينكر على دولة عربية كبرى كمصر حماية أمنها القومي ضد الإرهابيين والميلشيات التي جلبها من أتون الصراع السوري ووضعها على الحدود مع مصر لتكون مخلب قط وشوكة تؤلم خاصرة الدولة المصرية، ولكنه في الوقت ذاته يحتل أراضي دولة عربية كبرى كالعراق بذريعة حماية الأمن القومي التركي والتصدي لهجمات حزب العمال الكردستاني.
الحقيقة أن أردوغان لا يفقه كثيراً في السياسة والعلاقات الدولية، ويستهويه دور المغامر والبلطجي الإقليمي، فهو لم يقرأ بالمرة عن الضوابط والمعايير التي تحكم سيادة الدول، وأعتقد أنه قد آن الأوان لوقفة عربية جماعية صارمة تهب غضباً ضد الانتهاكات التركية المستمرة للأمن القومي العربي، فالصمت على ممارسات السلطان يغريه بمواصلة الاعتداء على حقوق الشعوب العربية ومواردها، ويبدو أنه لن يكف عن هذا المسلك سوى بوقفة عربية جماعية جادة تحمل رسالة قوية لكل معتد أثيم.a