قالت مجلة "فورين افيرز" الأمريكية المعروفة في تقرير لها نشرته منذ أسابيع قلائل أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يصعّد مغامراته الخارجية في محاولة منه لكسب المزيد من التأييد في الانتخابات المقبلة، وتفادي تدهور الاقتصاد التركي الذي وصفته بـ"المترنح". وقالت المجلة أن أردوغان يدرك أن قاعدته الشعبية بدأت تتآكل، وأنه يسعى لفعل أي شيء من أجل إعادة بناء القاعدة حتى وإن استمر عدد خصومه بالارتفاع وأثارت أفعاله إدانات دولية واسعة.
صحيح أن هذا التحليل السياسي لا يقدم رؤية مبتكرة في تفسير ظاهرة "السلطان" الذي اصيب بداء العظمة وافتتن بنفسه وفطنته المزعومة لدرجة جلبت لشعبه وبلده الكوارث، سواء من خلال تدخلاته غير المشروعة في مشروعات غاز شرق البحر الأبيض المتوسط، وهي المنطقة التي يصفها بأنها "الوطن الأزرق" لتركيا، أو محاولاته الوصول إلى ما يسميه بالحدود الروحية للإمبراطورية العثمانية، ولكن التحليل يسلط الضوء من هذه المجلة الشهيرة على فكرة تصدير الأزمات من جانب بعض الأنظمة في منطقة الشرق الأوسط لصرف أنظار شعوبها عن اوجه المعاناة والأزمات الداخلية الناجمة عن فشل السياسات وغياب الرؤى الاستراتيجية الواعية للحاضر والمستقبل.
الحقيقة أن السلطان التركي خبير في صناعة الأعداء، إذ استطاع أن ينجح بجدارة في بناء تحالفات اقليمية معادية للمشروع الاستعماري التركي، من دون أن تثبت أي فائدة استراتيجية تذكر لمخططاته للدولة التركية، فلا يزال الجميع حائراً في فهم دوافع تصرفات أردوغان، الذي انشق، من الناحية الواقعية، عن حلف شمال الأطلسي بل أصبح في حالة عداء صريحة مع اليونان إحدى دول الحلف!
التدخل العسكري التركي في سوريا يكلف الخزانة التركية نحو 3 مليارات دولار سنوياً، واتسعت دائرة تدخلات أردوغان في المحيط العربي والمتوسطي لدرجة أن بعض المراقبين يتوقعون شعوره قريباً بأنه "قضم أكثر مما يستطيع مضغه"، ولهذا يتوقع أن يلجأ "السلطان" إلى مزيد من التهور خلال المرحلة المقبلة، كي يمكن اثارة الكثير من الغبار والضجيج، الذي يأمل أن يوفر له الغطاء للهروب من الأزمات التي تسبب فيها.
واعتقد جازماً أن توسيع دائرة الأزمات بافتعال أزمة مع العراق هو أحد مظاهره الأزمة التي يعانيها السلطان التركي، الذي خسر أصدقائه في المنطقة العربية والعالم واحداً تلو الآخر، ومن بقي في معسكره من أنظمة منبوذة شعبياً لا تستطيع فعل شىء دفاعاً عن نفسها ناهيك عن الدفاع عن حليفها التركي.
ولا يمكن لعاقل مطلقاً أن يفسر دوافع السلطان التركي في احتلال أراضي بشمال غرب سوريا، وإرسال آلاف المقاتلين والمرتزقة إلى ليبيا، واقامة قواعد عسكرية بحرية وجوية يعرف مسبقاً أنها قد تكون مقبرة لجنوده الأتراك بسبب صعوبة الدفاع عنها في ظل آلاف الكيلومترات التي تبعدها عن الوطن، ولا يكتفي بذلك بل يشعل فتيل صراع عسكري مع اليونان وربما فرنسا ومن ورائهما دول الاتحاد الأوروبي التي لا تكن سوى العداء والكراهية للسلطان وسياساته الخرقاء، والأمر لا يقتصر على ذلك بل أرسل قوات تركية لدعم أذربيجان في صراعها مع أرمينيا، وهي قرارات عشوائية لا تصدر عن قيادة تلم بأبسط قواعد إدارة الصراعات والأزمات في بيئة دولية واقليمية معقدة كما هو عليه الحال الآن عالمياً.
واعتقد أن قمة التهور والاستهتار قد تجلت في قرار حاشية السلطان التركي باستهداف "قادة في حرس الحدود العراقي أثناء اجتماعهم مع مقاتلي حزب العمال الكردستاني" كما ذكرت مصادر عراقية، في اعتداء وصفته الرئاسة العراقية بأنه "انتهاك خطير لسيادة العراق"، ولا اعتقد أن هناك دولة في العالم تنتهك حدود جوارها مثلما تفعل تركيا التي منحت نفسها حق إطلاق عملية عسكرية تضرب فيها أهدافاً لحزب العمال الكردستاني في مناطق مختلف شمال العراق من دون أدنى تنسيق مع السلطات العراقية!
ولا شك أن تكرار الاعتداءات التركية على سيادة العراق تستوجب وقفة عراقية ـ عربية جادة، فالعراق كما قال المتحدث باسم وزارة خارجيته، أحمد الصحاف، يمتلك أوراق قوة عدة للرد على الانتهاكات التركية، واعتقد أنه يكفي توظيف الورقة الاقتصادية، لا التلويح بها فقطـ ليشعر السلطان بالألم جراء أفعاله الطائشة، فالعراق سوق رائجة لا غنى عنها للشركات التركية التي تعمل في العراق وتصدر له المنتجات التركية. ويفترض أن يكون هناك موقف عربي جماعي قوي يساند أي قرارات أو مواقف يتخذها العراق في هذا الشأن خصوصاً أن السلطان التركي بات يستمرىء البيانات العربية المعتادة بل ويجد فيها فرصة للاستعراض اللفظي والكلامي والمزيد من التهجم على الحكومات والدول العربية.
من الضروري أيضاً أن يهب مجلس الأمن أيضاً دفاعاً عما تبقى من هيبة ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي، فالأمر قد استفحل وفاض الكيل من ممارسات تركيا في المنطقة العربية، ولم يعد هناك بديل لمنع نشوب صراع اقليمي موسع، سوى ردع السلطان عن مواصلة المغامرات، وعلى المجتمع الدولي أن يتحمل مسؤولياته تجاه الفوضى التي تعم المنطقة والعالم بسبب غياب سلطة انفاذ القانون وضعف قبضة النظام العالمي وغياب دور الدول الكبرى التي باتت إما مشغولة بشؤونها وأزماتها الداخلية، أو صامتة بانتظار انهيار هذا النظام كي يعاد ترتيبه وفق قواعد ومعايير جديدة.