وهناك بطبيعة الحال قضايا سياسية أخرى مثل علاقات الولايات المتحدة بتايوان وهونج كونج وموقفها من قضية الحريات وحقوق الانسان في الصين، ناهيك عن الاتهامات التي يوجهها الرئيس ترامب للصين بتعمد اخفاء الحقائق حول تفشي فيروس "كورونا" في بدايته ما تسبب في انتقاله للعالم، وهي اتهامات تنفيها الصين رسميًا وتشعر بالانزعاج حيالها، ما يفسر في مجمله تخلي بكين تدريجيًا وبشكل محسوب للغاية عن حذرها الدبلوماسي الزائد في إدارة العلاقات مع واشنطن، وكانت الإشارة الأكثر بروزًا في هذا الاتجاه قد وردت على لسان الرئيس الصيني شي جين بينغ حيث تحدث في قاعة الشعب الكبرى ببكين، قائلًا إن بلاده لن تسمح مطلقا بتقويض سيادتها وأمنها ومصالحها التنموية، مضيفا أنه ينبغي عدم الاستخفاف بالشعب الصيني، وأضاف شي "أن أي عمل يتسم بالنزعة الأحادية والاحتكار والتنمر لن ينجح ولن يؤدي إلا إلى طريق مسدود"، واقتبس شي قول ماو تسي تونغ، مؤسس جمهورية الصين الشعبية "دعوا العالم يعرف أن شعب الصين منظم الآن وينبغي عدم الاستخفاف به".
إحدى النقاط الأبرز في حديث الرئيس الصيني في تلك المناسبة تتعلق بتوجيهاته باتخاذ خطوات للإسراع بتحديث الدفاع والقوات المسلحة الصينية، وقوله في هذا الإطار "بدون جيش قوي لا يمكن أن يكون هناك وطن قوي"، وهذا يعكس إدراك القيادة الصينية، التي لا تميل عادة للحديث عن الجانب العسكري في القوة الصينية وتركز على الخطط والطموحات التنموية، لمستوى التهديدات الاستراتيجية التي تواجه الصعود الصيني المتسارع وما يواجهه من تحديات قد تضع الصين في موقف يتطلب تدخلًا عسكريًا أو خوض "حرب الضرورة" كما يطلق عليها في الأدبيات الاستراتيجية.
المعروف أن الصين لا تميل مطلقًا للإسراع للصدام مع الغرب، وتحديدًا الولايات المتحدة وتعتمد على قوتها الاقتصادية في مراكمة القوة والصعود في مراتب التنافسية العالمية من دون المغامرة بخوض حروب دامية مع القوى الكبرى، ولكن هذا الصعود الصامت يزعج الولايات المتحدة التي باتت تشعر بخطر حقيقي إزاء القوة الصينية المتنامية.
وأعتقد أن الرئيس الصيني لم يتراجع عن فكرة تأجيل المواجهة مع الولايات المتحدة، ولكن البيئة الاستراتيجية التي نشأت إثر تفشي فيروس "كورونا" (كوفيد ـ19) وبروز دور الصين كقوة قادرة على مواجهة التحديات الكبرى، وتقديم يد العون والمساعدة لبقية دول العالم، باتت هذه البيئة تتطلب تعاطيًا مختلفًا نسبيًا خصوصًا في ظل تلويح الرئيس الأمريكي بعصا التفوق العسكري الأمريكي في كثير من المناسبات، وربما أسهم ذلك في تخلي القيادة الصينية عن حذرها في الحديث عن الجانب العسكري في القوة الشاملة التي تتمتع بها البلاد، بمعنى أنه يريد بناء ردع مبكر عبر تذكير المنافسين بأن قوة الصين ليست اقتصادية فحسب بل عسكرية أيضًا، وهذا أحد التكتيكات السياسية الهادفة لدرء الأخطار وتفادي خطأ الحسابات والتقديرات من جانب الآخرين، بمعنى أنه حديث وقائي وليس تصعيديا، فالرئيس الصيني لا يريد أن تظهر بلاده بمظهر الضعيف ولكنه لا يريد أيضًا الصمت على التهديدات، ويسعى إلى ردعها عبر التأكيد على قوة بلاده وقدرتها على الرد على أي تهديدات، وهذا بحد ذاته يمثل تحولًا لافتًا في الخطاب السياسي الصيني ولكنه ليس تحولًا تصعيديًا، ولا يعني تخلي الصين تمامًا عن نهجها السلمي وصعودها التنموي الهادىء، ولكنه يؤكد وجود مقاربة استراتيجية أو تكتيك مختلف في إدارة الأزمة المتفاقمة مع الجانب الأمريكي من خلال الردع المبكر والتلويح بأوراق القوة الصينية وكيف أنها لا تقتصر على القوة الاقتصادية.