اثبت الاعتداء الارهابي الذي وقع مؤخراً في العاصمة النمساوية، فيينا، أن خطر التنظيمات الارهابية لم يزل قائماً، وأن خطط هذه التنظيمات لإشعال الفتن بين العالم الاسلامي والغرب لم تزل تتحين الوقت المناسب لتحقيقها، حيث انطوى هذا الاعتداء الاجرامي على مؤشرات بالغة الخطورة تتعلق باستمرار خطر التطرف والارهاب الذي انحسرت جهود مكافحته في الأشهر الأخيرة بسبب تفشي وباء "كورونا" وانشغال العالم بما احدثه هذا الوباء من خسائر بشرية واقتصادية في معظم الدول، ولاسيما الدول الأوروبية التي تفشى فيها الوباء بدرجة تفوق غيرها من الدول.
استهداف النمسا بحد ذاتها يؤشر إلى وجود عقلية إجرامية تخطط لتوسيع دائرة المواجهة بين الاسلام والغرب، لأن النمسا تحديداً لم تكن ساحة مواجهة على هذا الصعيد، ولم ترتبط بأي حادث أو مسألة ذات صلة بالسجالات المحتدمة حول الموقف من الاسلام والمسلمين، وهي أيضاً ليست نقطة أمنية ضعيفة كي يختارها الارهاب هدفاً لنشاطه الاجرامي، وبالتالي فإن اختيارها كان ـ على الأرجح ـ تنفيذاّ لمخطط تم الاعداد له بدقة وترقب اللحظة المناسبة لتنفيذه، فالهجمات التي استهدفت العاصمة النمساوية حدثت في توقيت متقارب واشترك فيها العديد من العناصر الارهابية، ما ينفي بالأساس أي علاقة لها بما يثار حول ازمة الرسوم المسيئة للرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) لسبب بسيط أن مثل هذه الجرائم تتطلب وقتاً زمنياً ممتداً نسبياً للتخطيط وتحديد الأهداف وجمع المعلومات وانتقاء العناصر وتدريبها، وهذا كله يعني أن هناك تنظيماً يقف وراء هذه الاعتداءات، وهو أمر ليس مفاجىء لأن "داعش" وغيره من تنظيمات التطرف والارهاب تمتلك مخزوناً بشرياً وحاضنات أيديولوجية مكنّتها من غشل أدمغة الشباب والمراهقين من أبناء المسلمين في هذه الدول، ورفد الصراع في سوريا بمئات، إن لم يكن آلاف، العناصر الارهابية التي شاركت في القتال ضمن صفوف "داعش".
في البحث عما وراء الأحداث يمكن القول بأن الارهاب هو الرابح الأكبر من انقسام القوى الكبرى حول سبل تسوية الأزمتين السورية والليبية، وكذلك غض الظرف عما يمكن تسميته بالتمدد الجيوسياسي لقوى الهيمنة الاقليمية في الشرق الأوسط، وتحديداً من جانب ملالي إيران والسلطان التركي رجب طيب أردوغان، حيث انحسرت جهود مكافحة الارهاب في سوريا بشكل ملحوظ، بل يلتزم الجميع الصمت حيال التعاون الميداني المفضوح بين تركيا وتنظيمات التطرف والارهاب في سوريا، وكذلك إرسال تركيا لقوافل الارهابيين للمشاركة في القتال إلى جانب حكومة الوفاق في ليبيا بدعم عسكري تركي وتمويل قطري!
الواقع يقول أن العالم قد التزم الصمت على "إعادة انتشار" فلول تنظيم "داعش" التي اندحرت وانهارت دولتها المزعومة في العراق وسوريا، والجميع يعرف أن هذه التنظيمات لا تنتهي ولا تتلاشى من الوجود بالسهولة التي يتخيلها البعض بل تمضي بين مد وجور سواء لأن نشاطها قد تحول إلى مصدر للحصول على الأموال من جانب قادتها وزعمائها، أو لأن بعض الأطراف الاقليمية تعمل على ابقاء هذه التنظيمات على قيد الحياة وتستخدمها في تحقيق أهدافها في مناطق الأزمات والصراعات. ونتيجة هذا الصمت ـ المقصود أو غير المقصود ـ أن هذه التنظيمات عادت تتنفس من جديد بعد أن لجأت مرحلياً للعمل السري وقامت بتفعيل خلاياها النائمة في دول أوروبا واستغلت أزمة الرسوم الكاريكاتورية المسيئة ودخلت على خط الأزمة لترتكب جرائمها بزعم الدفاع عن الاسلام والمسلمين!
يجب على الجميع أن يعترف بالأخطاء التي ارتكبت، ولا تزال، في التصدي لأنشطة التطرف والارهاب وخطاب الحقد والكراهية الذي تتبناه منصات التنظيمات سواء في العالم الافتراضي أو عبر منابر المساجد والجمعيات التي نجحت في نشرها في دول أوروبية عدة طيلة
العقود والسنوات الماضية، كما يجب على الجميع أيضاً الاعتراف بالتقصير في نشر وترسيخ ثقافة التعايش والاعتدال وقبول الآخر والاندماج في المجتمعات الغربية، كما يجب كذلك الاعتراف بالأخطاء التي ارتكبت في احتضان وحماية تنظيمات وعناصر التطرف والارهاب في عواصم غربية عدة بدعوى صون حرية التعبير وحمايتهم من الملاحقة وانعدام الديمقراطية في بلادهم!
للأسف نجحت تنظيمات التطرف والارهاب في التغلغل داخل مجتمعات المسلمين في الغرب، واستغلت أجواء التسامح والحريات في نشر خطاب الحقد والكراهية وأسهمت في عزل الأجيال الجديدة من أبناء المسلمين عن قيم مجتمعاتهم وقامت بتغذية مشاعر الاغتراب لديهم حتى أصبح الكثير من هؤلاء بمنزلة قنابل موقوتة قابلة للانفجار حين تريد هذه التنظيمات تفجير هذه المجتمعات من داخلها!
الخلاصة أن مكافحة الارهاب هي معركة المسلمين والغرب معاً، وأن دفع الطرفين للصدام والصراع هو هدف أساسي للمتطرفين والارهابيين، ومن ثم فإن من الحكمة والعقلانية أن يتعاون الطرفين وتتوحد جهودهما في استئناف هذه المعركة بدلاً من الانزلاق إلى صراعات لن يستفيد منها سوى المتطرفين لدى الجانبين.
معركة مكافحة الارهاب والتطرف ممتدة ويجب ألا يخطىء العالم فهم مايدور وينساق وراء دعوات صراع الحضارات والصدامات الدينية التي يريد الارهابيون والمتطرفون إشعالها، وجريمتي النمسا وفرنسا هما إنذار بضرورة تنسيق الجهود والتعاون من أجل إطفاء الفتن واستئناف جهود العالم أجمع لاستئصال التطرف والارهاب من جذوره.