ليس لدي شك في أن انتخابات الرئاسة الأمريكية التي جرت مؤخراً قد حبست أنفاس مئات الملايين من سكان العالم، شرقاً وغرباً، بانتظار حسم نتائجها، وطي صفحة هذه الجولة الأكثر إثارة من بين سباقات الرئاسة الأمريكية في العقود الأخيرة؛ وهذا الأمر يعكس ـ برأيي ـ مكانة الولايات المتحدة وثقلها وتأثيرها الاستراتيجي في النظام العالمي القائم رغم كل ما يقال ويتردد حول تراجع نفوذها وتآكل تأثيرها عالمياً.
في هذا السباق الانتخابي المثير للغاية، هناك بعض النقاط التي استوقفتني في تغطية قنوات التفلزة العربية وكذلك كتاب الرأي والأعمدة الصحفية، أولى هذه النقاط العبارة الأثيرة التي يؤمن بها البعض في عالمنا العربي، وهي أن المسألة تتعلق بتغيير وجوه لا تغيير سياسات، وأن المرشحين، الجمهوري والديمقراطي، ليسا سوى وجهان لعملة واحدة، وهذا كلام لا يعبر عن حقيقة الأمور ويعكس تشوشاً في فهم الآليات التي تدار بها السياسة الأمريكية، والتي تمنح الرئيس دوراً كبيراً في رسم السياستين الداخلية والخارجية، ما لم يتعارض ذلك مع المصالح الاستراتيجية العليا للولايات المتحدة، وإليكم دليل واحد فقط، هو انسحاب الرئيس الحالي دونالد ترامب من الاتفاق النووي الذي وقعّه سلفه الرئيس السابق باراك أوباما قبل نحو عام من رحيله من البيت الأبيض.
هذا المثال يلخص الفكرة الخاصة بضرورة فهم آليات السياسة الأمريكية، والتي تتعلق بالنهج أو التكتيك الذي يتبعه كل رئيس أمريكي في التصدي لمصادر الخطر والتهديد التي تواجه الأمن القومي الأمريكي، وهي التي يتم رصدها وتحديدها من جانب المؤسسات المعنية بالأمن القومي، بحيث يتعامل معها البيت الأبيض بالتنسيق مع الكونجرس وفق الرؤية الاستراتيجية للإدارة.
ببساطة، هناك مصالح استراتيجية أمريكية، وهناك استراتيجيات وتكتيكات للتعامل معها، وهذه يرسمها ويحدد أولويات التعامل معها الرئيس وأركان إدارته بالتنسيق مع الكونجرس؛ ومن ثم فمقولة تغيير الوجوه ليست دقيقة وكلنا يعرف حجم التغيير الذي طرأ على سياسات الولايات المتحدة في الشرق الأوسط عقب وصول الرئيس ترامب إلى البيت الأبيض ورحيل إدارة أوباما بعد سلسلة من الأخطاء الكارثية التي ارتكبها سواء فيما يتعلق بدعم ما عٌرف بالربيع العربي وما ارتبط به من قفز تنظيم الإخوان المسلمين إلى الحكم في دول عربية عدة، أو توقيع الاتفاق النووي الملىء بالثغرات مع ملالي إيران، الذين استغلوه في إطلاق مشروع توسعي طائفي تسبب في اتساع نطاق الفوضى والاضطرابات في عالمنا العربي.
ثاني هذه النقاط أن المراقبين والمحللين في منطقتنا يتجاهلون حسابات الناخب الأمريكي التي لا علاقة لها بتفكيرهم وأولوياتهم، فلدى هؤلاء الناخبين أجندتهم الخاصة التي يحددون بناء عليها هوية من يصوتون له، حيث تجاهل الكثير من هؤلاء أن لدى الرئيس ترامب قاعدة شعبية ضخمة ظهرت بوضوح في انتخابات عامي 2016، 2020 بغض النظر عن توصيف هذه القاعدة وميولها الفكرية والدينية والسياسية وغير ذلك، فهي قاعدة كبيرة تجعل من الرئيس ترامب ظاهرة في التاريخ السياسي الأمريكي، واعتقد أن قدرته على حشد هذه القاعدة للتصويت له سيكون محفزاً لظهور قادة آخرين يتبنون النهج ذاته لجذب تأييد ودعم هذه القاعدة التصويتية الضخمة التي وجدت في ترامب ضالتها وستبحث حتماً عن بديل له في أي انتخابات رئاسية مقبلة.
ظاهرة ترامب في الحياة السياسية الأمريكية ستستمر، لأنها لا تتعلق بشخص الرئيس وميوله وتوجهاته الفكرية والسياسية حسبما يعتقد البعض، ولكن لأنها تعبر عن ميول وتوجهات شريحة كبيرة من الرأي العام الأمريكي، وبالتالي فالمسألة لا تتعلق بشخص الرئيس ترامب بقدر ما تتعلق بهوية المجتمع الأمريكي، وما يشهده من صراعات وانقسامات حول مسائل وقضايا حيوية مثل مستقبل البلاد والمهاجرين والتعددية والتمييز العنصري والسلاح الشخصي وغير ذلك، وهي انقسامات لم يستحدثها ترامب بطبيعة الحال، بل يمكن القول بموضوعية، أنه يتوافق معها تماماً وقد نفض عنها الغبار ودفعها إلى واجهة السجال السياسي اليومي وراهن عليها واستغلها في تحقيق مكاسب سياسية لمصلحته، وهو مايدفع الكثيرين لاتهامه بإثارة الانقسامات في المجتمع الأمريكي، وهو اتهام غير دقيق لأن هذه الانقسامات موجودة وقائمة بالفعل وما قام به ترامب أنه توافق معها وعبرّ عنها بشكل فج مباشر في أحيان كثيرة بعيداً عن الدبلوماسية واللباقة المعروفة عن السياسيين في مثل هذه الأحوال، فالظواهر العنفية التي يشهدها المجتمع الأمريكي في المرحلة ليست من اختراع الرئيس ترامب، ولكنها ظواهر موجودة طفت على السطح حينما وجدت تماهياً بينها وبين نهج سيد البيت الأبيض.