لا يختلف اثنان من المراقبين على أن "السلطان" التركي رجب طيب أردوغان لعب دوراً كبيراً في تأجيج الغضب في العالم الاسلامي حيال موقف فرنسا من الاسلام والمسلمين، حيث "التقط" أردوغان تصريحات الرئيس الفرنسي ماكرون ووجد فيها فرصة ثمينة للانتقام من الأخير رداً على مواقفه في التصدي للمخطط التوسعي التركي في ليبيا وشرق المتوسط. ومن المعروف أن لعبة خلط الأوراق من الألعاب التي يجيدها أردوغان بامتياز ويراهن في ذلك على شريحة كبيرة من البسطاء الذي يدغدغ خطابه الشعبوي الديماجوجي عواطفهم من دون أن يتحمل فاتورة أو عبء ما يروج له من أفكار عبثية لا تليق بدولة مسؤولة تلتزم بمنظومة القيم والمبادىء والقوانين والتشريعات الدولية.
تحليل تطور العلاقة بين تركيا ودول الاتحاد الأوروبي في الآونة الأخيرة، وخصوصاً فيما يتعلق بالعلاقات التركية ـ الفرنسية، يشير إلى أن صمت اوروبا أحياناً وترددها وحذرها وانقساماتها في التصدي للتهور التركي وكيفية التعامل معه قد بعث برسالة خاطئة للسلطان أردوغان، الذي اثبت أنه لا يفهم سوى لغة "الخطوط الحمراء" التي نجحت بالفعل في ردع ميلشياته عن التوغل في الأراضي الليبية.
ارتفع صوت السلطان التركي داعياً إلى مقاطعة المنتجات والسلع الفرنسية، ثم جاء الرد على دعوته قوياً من معارضيه الأتراك الذين طرحوا تساؤلات مشروعة حول مدى شمول دعوات المقاطعة لحقيبة اليد فرنسية الصنع التي تحملها قرينة السلطان التركي! يريد السلطان أن يوحي لفرنسا وغيرها من الدول الأوروبية أنه زعيم العالم الاسلامي وقادر على تحريك مشاعر ملايين المسلمين ضدهم، وهي مسألة غير حقيقية تماماً، لأن حيل وألاعيب أردوغان باتت مكشوفة للشعوب العربية والاسلامية ولم يعد خطابه يلقى أي قبول لدى الشعوب الاسلامية.
الحقيقة أن توظيف السلطان أردوغان لأزمة الرسوم المتحركة وتصريحات الرئيس الفرنسي ماكرون بتوظيف الخميني لكتابات سلمان رشدي في علاقات النظام الايراني بالغرب، وهي قضية ملتبسة يستخدم فيها الاسلام والمسلمين مطية لتحقيق أغراض مصالحية لأنظمة وقادة شعبويين يجيدون خلط الأوراق والقفز على حبال السياسية، ويروج كلاهما للعداء مع الغرب في ظروف وتوقيتات معينة باعتبار الغرب كتلة دينية وليست سياسية، علماً بأن الدعم الأوروبي الذي يحصل عليه الموقف الفرنسي هو دعم سياسي تماماً لا علاقة له بالدين، فلا يصدق عاقل أن فرنسا العلمانية التي تدافع عن أيديولوجيتها اللادينية تحصل على دعم أوروبي على قاعدة الدين والانتصار لدين ضد آخر!
والحقيقة أيضاً أن أردوغان يتحدي أوروبا المنقسمة على نفسها حيال التعامل معه، بل لا تستطيع بلورة موقف مشترك لفهم التهديد الناجم عن تركيا الأردوغانية على مصالح أوروبا، فالاتحاد الأوروبي ـ كما عكست القمة الطارئة التي عقدت مؤخراً عبر الفيديو، قد ناقشت تفشي وباء "كورونا" المستجد (كوفيد ـ 19) في دول القارة، وليس العلاقة مع تركيا كما أرادت فرنسا، وأوضحت قيادة الاتحاد الأوروبي أنها لن تتسرع في اتخاذ إجراءات للتأثير في الزعيم التركي رجب طيب أردوغان، وبررت ذلك بأن لدى الاتحاد الأوروبي الآن العديد من المسائل الأخرى التي يجب حلها، وهو بغنى عن مواجهة مع هذا البلد، الذي، على الرغم من كل شيء، لا يزال "حليفاً" لأوروبا الموحدة، وقال رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشيل إن "القضية التركية" ستناقش من قبل قادة الاتحاد الأوروبي في حالة غير محددة، وإن يكن في المستقبل القريب "قبل نهاية العام"!
صحيح أن تفشي وباء "كورونا" ينطوي على أولوية استراتيجية تفوق التفرغ لمناقشة مغامرات السلطان التركي، بالنظر إلى حجم كارثية احصاءات تفشي العدوى في بعض دول الاتحاد الأوروبي في إطار الموجة الثانية لانتشار الوباء، لكن الصحيح أيضاً أن أوروبا لم تعد تمتلك أوراق ضغط أو تأثير كبيرة تلوح بها في وجه أردوغان بعد أن سقط تماماً حلم انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، كما لا يطمح أردوغان في الوقت الراهن لمزيد من التربح من الخزانة الأوروبية ولو بالتلويح بورقة اللاجئين السوريين بالنظر إلى تردي الأوضاع الاقتصادية الأوروبية بسبب أزمة "كورونا" وصعوبة منح أي مساعدات أو دعم مالي يسهم في انقاذ الاقتصاد التركي، وفي ظل قلق أوروبا المستمر وخوفها من لجوء السلطان إلى لعبته المفضلة وفتح الحدود التركية أمام ملايين اللاجئين السوريين الموجودين في تركيا ووضع دول أوروبا في مواجهة مأزق جديد لا تحتمله في ظل الظروف الراهنة، يصبح من البديهي أن يطفو على السطح انقسام وتباين المواقف بين العواصم الأوروبية حول معاقبة تركيا على مواقفها الأخيرة، وتصبح المحصلة البديهية لكل ذلك هي تمادي السلطان التركي في الاستخفاف بدول الاتحاد الأوروبي والاضرار بمصالحها الاستراتيجية.
باختصار، أردوغان يلوي ذراع أوروبا، التي تعاني أزمة "كورونا" وتداعيات خروج بريطانيا من الاتحاد، ولم تكن تتوقع هذه الانتهازية الأردوغانية في الضغط على جراحها، ولكن هذا هو الواقع الذي يستحق من القادة الأوروبيين موقفاً حاسماً صارماً ولو بوضع خطوط حمراء لردع السلطان التركي عن الاستمرار في مغامراته الطائشة.