تشهد منطقة الشرق الأوسط في الآونة الراهنة تحولات وتغيرات استراتيجية متسارعة، لم تصل إلى منتهاها بعد، ويمكن القول أنها تعيد رسم الخارطة الجيواستراتيجية للمنطقة ككل، حيث أنتجت التطورات الأخيرة التي شهدتها المنطقة، وفي مقدمتها تطبيع العلاقات بين دول عربية عدة ـ بجانب مصر والأردن ـ مثل دولة الامارات ومملكة البحرين وجمهورية السودان من جهة وإسرائيل من جهة ثانية، وهناك شواهد وتصريحات رسمية أمريكية تحديداً تؤكد وجود اتفاقات أخرى قادمة، هذه التطورات النوعية الكبرى لا تقتصر على السياسة فقط، بل إن أكثر ما يميزها أنها انتقلت سريعاً إلى شق التعاون الاقتصادي والتكنولوجي والعلمي، وهذا بدوره يشير إلى شبكة علاقات استراتيجية جديدة ستؤثر حتماً في خارطة المنطقة بأوجهها وأبعادها وملامحها كافة.
الواضح ـ بحسب تصريحات رسمية أمريكية صدرت على لسان الرئيس ترامب ـ أن هناك دول عربية عدة ستقوم بتطبيع علاقاتها مع إسرائيل خلال الفترة المقبلة، ما يعني أننا بصدد شرق أوسط جديد بالفعل، وأن هناك خارطة تحالفات استراتيجية جديدة بحكم حجم ومستويات وأوجه التعاون الاقتصادي المعلن عنه والمتوقع بين الدول العربية واسرائيل.
هذا الواقع الذي لا يزال قيد التشكل ينتج بدوره معطيات استراتيجية جديدة ستسهم من دون شك في إعادة رسم خارطة المنطقة، حيث ستتلاشى مفاهيم وأطر تقليدية وتظهر مفاهيم وأطر جديدة تعبر عن الواقع الاستراتيجي الجديد، وترتبياً على ذلك فإن هناك تحديات جديدة يفرضها هذا الواقع على الدول الاقليمية المعنية وفي مقدمتها إيران وتركيا، اللتان تعملان بشكل حثيث لفرض مشروعات استعمارية واستغلال لحظة التفكك والاضطراب السائد في النظام الاقليمي العربي من أجل تكريس شكل جديد من أشكال الهيمنة الاستعمارية في بعض الدول العربية التي كانت فريسة لمخطط الفوضى الذي تفشي في عالمنا العربي منذ عام 2011.
إذا كنا ـ كمراقبين ـ لا نستطيع التكهن بأن هناك تحالفات عربية اسرائيلية ستنشأ في قادم الأيام، فيمكننا التأكيد على أن هناك واقعاً استراتيجياً اقليمياً جديداً لا يمكن تجاهله من جانب بقية القوى الاقليمية، فإيران ـ على سبيل المثال ـ التي ظلت تعربد وتصول وتجول في المنطقة العربية منذ توقيع الاتفاق النووي المشؤوم عام 2015، وكذلك تركيا التي استعادت ذاكرة الاستعمار والتدخلات غير المشروعة، لا يمكنهما مواصلة مشروعهما بنفس الحماسة والوتيرة المتسارعة، ليس خوفاً من تحالف عربي ـ إسرائيلي يتصدى لهما، ولكن لأن حسابات الأمن القومي للدولتين لم تعد كما كانت في السابق، حيث كانت تعمدان إلى نقل الصراعات لأراضي الغير واستخدام الأذرع الطائفية والميلشياوية في تنفيذ المخططات التدخلية، اعتماداً على بيئة اقليمية منقسمة ومفككة تسهم بشكل قوي في تغذية ميولهما العدائية حيال الجوار العربي.
المؤكد أن ملالي إيران يشعرون بالقلق الشديد الذي تعكسه ردود الأفعال والتصريحات المنفلتة التي تصدر عن قادة النظام والحرس الثوري بشأن مسألة تطبيع العلاقات بين الدول العربية واسرائيل، فلم تكن خطوات الدول العربية الجريئة بشأن كسر حاجز العلاقات مع إسرائيل واردة في التفكير الاستراتيجي الايراني، فالملالي ظلوا ينظرون لهكذا خطوة باعتبارها مسألة مستبعدة على الأقل خلال المدى المنظور، ولكن مقاربة الامارات الاستراتيجية وخطوتها الجريئة بالالتفاف على الواقع الاقليمي المأزوم الذي يريد الملالي حشر دول مجلس التعاون فيه، أربكت النظام الايراني، فقد شكّلت هذه المقاربة واقعاً استراتيجياً جديداً وأسهمت في خلط الأوراق التقليدية التي كان يعتمد عليها النظامين الايراني والتركي في اختراق دول المنطقة وتحقيق طموحاتهما الاستعمارية، وحطمت كذلك كل الأفكار والخطط التقليدية السائدة عن توازنات القوى وأنماط التحالفات القائمة والمحتملة في منطقة الشرق الأوسط، فإسرائيل لم تعد عدواً للكثير من الدول العربية، كما هو الواقع الجديد، وشعارات الملالي والسلطان لم تعد تلق الرواج الذي ظلا يتمتعان به طيلة سنوات فائتة.
البعض يتحدث عن محاور وتحالفات استراتيجية جديدة ستنشأ في ظل هذا الواقع الجديد، ولكني أرى أن الصدام الأساسي سينشأ بين الأهداف والمصالح بل والنوايا بين قوى الخير والتنمية والسلام في المنطقة من ناحية وبين قوى الشر والعنف والتدمير والفتن من ناحية أخرى، وهو صدام قد لا ينتج بالضرورة أحلاف أو محاور ولكنه بالتأكيد يخلق بيئة استراتيجية مواتية للتعاون بين الساعين عن السلام والاستقرار والأمن وهو تعاون ربما يفوق في قوته وحتميته أي أطر رسمية للتحالف والتمحور حول صيغ تقليدية، فشعوب المنطقة التي عانت الصراعات والتوترات والتهديدات والتدخلات ستقف حتماً إلى جانب السلام والبحث عن الاستقرار وخلق فرص العمل لملايين الشباب العربي المتطلعين إلى غد أفضل.