رغم أن الموقف الأمريكي من الاتفاق النووي الإيراني كان يمثل أحد الملفات المرشحة لإثارة الجدل في بدايات تولي الرئيس جو بايدن منصبه، فإن النقاشات قد أخذت منحنى أكثر تسارعاً عما هو متوقع منذ العشرين من يناير الماضي، حيث بدأ الأطراف المعنية في توضيح مواقفها، ولاسيما بعد أن كشف انتوني بلينكن وزير الخارجية الأمريكي الجديد، رسمياً، عن ملامح تغيير شامل لسياسات بلاده في الشرق الأوسط، حيث بدت إشارات بلينكن واضحة بشأن التخفيف من وتيرة تسارع التوقعات بشأن توقيت عودة الولايات المتحدة للاتفاق النووي تنفيذاً لما سبق أن أعلن عنه الرئيس بايدن خلال حملته الانتخابية، وقد جاء حديثه متماشياً مع ما سبق أن توقعناه في مقالات سابقة، سواء لأن هذه العودة لن تكون بالسهولة التي يتخيلها البعض، أو لأن هناك معطيات استراتيجية تحد من اندفاع البيت الأبيض نحو العودة المزمعة.
قال بلينكن في أول مؤتمر صحفي له بعد يوم من توليه منصبه إن الرئيس بايدن أوضح إنه إذا أوفت إيران مجدداً بكل التزاماتها باتفاق 2015 «فإن الولايات المتحدة ستفعل الأمر نفسه»، مشيراً إلى أن إيران توقفت عن الوفاء بالتزاماتها على جبهات عدة، ولذا «سيستغرق الأمر بعض الوقت إذا اتخذت قرار العودة إلى المسار الصحيح، كما سيتستغرق الأمر وقتاً حتى نتمكن من تقييم ما إذا كانت تفي بالتزاماتها، ما زلنا بعيدين جداً عن ذلك، هذا أقل ما يمكن قوله».
وفي تحليل هذا التصريح الذي يكشف للمرة الأولى ملامح استراتيجية إدارة الرئيس بايدن في التعامل مع هذا الملف المعقد، يمكن القول إن هذا التصريح يعكس موقفاً جيداً من الناحية المبدئية، حيث وضع الوزير الأمريكي معايير واضحة للعودة إلى الاتفاق النووي الموقع مع إيران، ولم تعد المسألة صكاً على بياض كما اعتقد الملالي منذ أشهر، وبات واضحاً أن مسألة العودة للاتفاق النووي ليست وشيكة، وتحتاج إلى وقت طويل نسبياً للوقوف على الخطوة المقبلة لسبب بسيط هو أن ملالي إيران يطلبون خطوة معاكسة تماماً، بمعنى أنهم يشترطون ـ كما هو معلن ـ عودة الولايات المتحدة للاتفاق النووي كمدخل لالتزامهم بتعهداتهم في هذا الاتفاق.
قناعتي الشخصية أن شرط الملالي مطاط وقابل للتغيير شريطة أن تتوافر ظروف معينة تحفظ للنظام الإيراني ماء الوجه كي يتراجع عن بعض الانتهاكات التي أقدم عليها في إطار الرد على العقوبات الصارمة التي فرضها الرئيس الأمريكي السابق ترامب منذ انسحابه من الاتفاق النووي منتصف عام 2018.
وفي ظل حديث الجانب الأوروبي عن إمكانية عقد مفاوضات مع الولايات المتحدة حول سبل التعامل مع الملف النووي الإيراني، تلوح في الأفق بدائل عدة يمكن أن تمثل حلاً وسطاً مثل الإعلان المتزامن عن عودة كل طرف ـ إيران والولايات المتحدة ـ إلى الاتفاق، ولكن حديث بلينكن عن أهمية التيقن من وفاء نظام الملالي بالتزاماته الواردة في الاتفاق النووي ربما تعكس صعوبة العودة المتزامنة للاتفاق، وتحول دون تحققها.
وأعتقد أن أي عودة غير مشروطة للولايات المتحدة للاتفاق النووي تعد بمنزلة خطأ استراتيجي بالغ سيلاحق سنوات الرئاسة الأربع للرئيس بايدن، وسيصعب علاجه، لأنه يمنح الملالي تفويضاً بالتمادي في المراوغة ومناورة وانتهاك بنود الاتفاق النووي القائم، ناهيك عن صعوبة إقناعهم أو الضغط عليهم من أجل اخضاع برنامجهم الصاروخي ودورهم الإقليمي في إطار مفاوضات أوسع وأشمل يجب أن تشمل ممثلي دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، كسبيل للبحث عن صيغة متكاملة للأمن والاستقرار الإقليمي.
لذا يبدو مفيداً للغاية أن تبتعد الولايات المتحدة عن صيغة «أنت أولاً» التي يحاول الملالي فرضها على أجندة النقاش حول ملفهم النووي، وأعتقد أن تعمدوا انتهاك شروط الاتفاق النووي خلال الأشهر الأخيرة من أجل الوصول إلى هذه الصيغة التي تضمن لهم تحقيق انتصار سياسي دعائي يبدو مهماً للغاية بالنسبة لنظام ظل طيلة السنوات الأربع الماضية متلقياً للضربات، التي حاول على استحياء الرد على بعضها فيما اكتفى بإثبات حقه في الرد على معظمها من دون أن يقدم على ذلك خشية عواقب هذا الرد.
ولأن نظام الملالي قد حرص في الآونة الأخيرة على إعلان موقفه بشأن عدم استعجال عودة الولايات المتحدة للاتفاق النووي، فالأرجح أنه سيعاود الرهان على مفاوضات مارثوانية كما حدث في المفاوضات التي سبقت اتفاق عام 2015، حيث بدا المفاوض الإيراني أشبه بحائك السجاد في التعامل مع ما يطرح على مائدة التفاوض بكثير من الصبر وقليل من الشفافية، وما يرتبط بذلك كله من مراوغات ومماطلات ومناورات حصل بعدها على ما يريد ودفع الباقين للتوقيع على اتفاق ملىء بالثغرات التي تصب في مصلحة الملالي! لذا قد يكون من المفيد للأطراف المعنية كافة أن تتدارس الوضع الراهن وتضع خططاً وأهدافاً واضحة ودقيقة قبل تحديد الخطوة المقبلة تجاه هذا الملف المعقد.