من الثابت تاريخياً أن ثقافة التعايش لا تنمو عشوائياً، فهي ليست كحبوب اللقاح التي تتناقلها الرياح، لا سيما في بيئات تعاني ثقافات معاكسة، أو عانت صراعاً بين فرقاء سواء على المستوى المادي أو المعنوي، وبالتالي فإنها تحتاج إلى جهود كبيرة لغرسها ورعايتها كي تنمو وتقوى وتصبح جزءاً لا يتجزأ من ثقافة المجتمعات. وبرأيي، فإن تجارب اتفاقات السلام التاريخية التي مرت على الصراع العربي ـ الاسرائيلي، لم تتحول بمرور كل هذه السنوات الطويلة إلى واقع تعيشه الشعوب، ولاسيما الأجيال الجديدة، لسبب رئيسي هو أنها ظلت اتفاقات نخبوية تعيش في عليائها ولم تهبط إلى شوارع الدول وأزقتها وأحيائها وتنمو بين الشعوب على الجانبين، ولم تتوافر لها الاجواء والمعطيات التي تكفل نموها وترسيخ جذروها بحيث يصبح التعايش بين طرفي الصراع واقعاً مقبولاً وتتحول الحروب والصراعات إلى جزء من الماضي وذاكرة التاريخ، كما حدث في جميع تجارب الصراع التي شهدتها مناطق العالم كافة على مدار القرون والعقود الماضية.
ما يدفعني لكتابة هذه المقدمة هو المقال المشترك الذي نشره كل من سمو الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان وزير الخارجية والتعاون الدولي ونظيره الاسرائيلي يائير لابيد خلال زيارة الثاني إلى دولة الامارات، حيث نشرا مقالاً باللغة العبرية عنوانه "اخترنا بشكل مختلف"، ورغم أن هذا المقال يعبر عن ممارسة دبلوماسية معتادة في كثير من الأحيان بين مسؤولي الدول الصديقة خلال الزيارات الرسمية، فإنه يبدو محملاً بالكثير من المعاني والدلالات المكتسبة من خصوصية الحالة (العلاقات الاماراتية ـ الاسرائيلية) فضلاً عن خصوصية الأجواء الاقليمية التي تعيشها علاقة السلام الوليدة بين البلدين، ولذا فقد جاء المقال عميق وزاخر بالمعاني الحيوية وعاكس لحماس الطرفين ورغبتهما المشتركة في استكمال المشوار الذي بدأاه معاً، وهو مشوار السلام، بحيث يتحول إلى نموذج حي للعلاقات القائمة على المصالح المشتركة والنظرة الموضوعية للأمور.
يقول سمو الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان والسيد لابيد في مقالهما نقاشاً مهماً حول سؤال هو الأهم في منطقتنا، وهو:هل الماضي يحدد مستقبلنا أم أن مصيرنا بأيدينا؟، واعتبرا أن زيارة الوزير الاسرائيلي وما اشتملت عليه من تحرك فعلي نحو ترسيخ جذور السلام بين البلدين من افتتاح سفارة وقنصلية اسرائيليتين وتوقيع العديد من الاتفاقات المهمة مع الجانب الاماراتي، يوفر فرصة مناسبة للتعبير عن الاجابة، بمعنى أن المستقبل يتوقف على مانفعله في الحاضر، وأن الاختلافات الهوياتية والعقائدية وصراعات الماضي القريب لا تثنيهما عن امتلاك إرادة تشكيل المستقبل.
المقال المشترك تحدث أيضاً عن اتفاقية السلام التي وقعها الجانبان، الاماراتي والاسرائيلي، من منظور استراتيجي بعيد المدى، حيث اعتبراها تجسيد لرؤية مشتركة للتعامل مع الواقع الجيوسياسي المعقد بشكل مختلف، وذلك ببناء "نموذج جديد لمنطقتنا"، وهو نموذج قائم على السعي المشترك لتحقيق السلام والاستقرار والأمن والازدهار والتعايش لشعوب المنطقة جميعها، وينطلق من إدراك مشترك لوحدة الهدف "لا سيما في التزامنا بتعزيز مستقبل أفضل للأجيال القادمة. إذا أتيحت لنا الفرصة لخلق عالم يسوده السلام لهم، يجب ألا ندع هذه الفرصة تفوتنا".
أكد الوزيران أيضاً في مقالهما أن مهمة ترسيخ التعايش والسلام ليست سهلة والأجواء ليست وردية، وأن هناك تحديات "كبيرة" تواجه نجاح هذا النموذج، في مقدمتها العنف والتطرف المتفشي في المنطقة، ولكنهما أقرا في الوقت ذاته بضرورة العمل على أن يتغلب النهج الذي اختاراه على "القوى التي ستحاول تقويضه، من خلال منح الأولوية لما وصفاه بالتبادل المفتوح والمشاركة بين الناس، مؤكدين رهانهما على قوة إرادتهما في اتخاذ القرارات الجريئة التي تضع رفاهية شعبيهما في المقام الأول، وأن هذه القرارات ستصنع النموذج الذي يلهم الآخرين في منطقتنا لاختيار الطريق نحو السلام.
تحدث المقال عما تحتاجه الشعوب من فرص يصنعها السلام والتعايش، من خلال ضمان النمو الاقتصادي والتجارة والاستثمار والتعاون في مجالات الزراعة والتعليم والاتصالات والطاقة والتكنولوجيا والسياحة، وضربا مثلاً بالتعاون عن كثب في أبحاث لقاحات فيروس "كورونا" وكيف يصب هذا التعاون المشترك في مصلحة البلدين وتعزيز طموحاتهما على الصعيد الدولي في المجال العلمي، مشيرين إلى أن "دولة الإمارات وإسرائيل أصبحتا في المرتبة الأولى بين الدول التي لديها أعلى معدلات لإدارة اللقاحات، وتلتزمان بتبادل المعرفة والخبرة مع الدول الأخرى في الجهود المبذولة لتعزيز التعاون الدولي في مكافحة كوفيد-19".
تحدث المقال المشترك كذلك عن مشاركة الموارد بين البلدين في مجالات مثل التحول الرقمي والمدن الذكية والأمن السيبراني والذكاء الاصطناعي، وكيف يمكن أن يستفيد الشباب من نمو هذه الصناعات، مما سيعزز الرفاهية الاجتماعية، ويزيد القدرة التنافسية الاقتصادية، وبما يضمن استعداد البلدين للمستقبل بشكل قوي.
المقال يؤكد أن الجانبين، الاماراتي والاسرائيلي، يعملان كذلك على بناء قاطرة اقليمية للتنمية ونشر ثقافة التعايش والسلام من خلال خطوات عملية مثل انشاء صناديق التنمية بميزانيات مليارية للاسهام في مبادرات الاستثمار والتنمية وتعزيز التعاون الاقتصادي الاقليمي، وخلق فرص للمشاركة وتشجيع الآخرين على الانضمام إلى جهود السلام.
وقد أعجبني في المقال أيضاً هذا التركيز الشديد على تحويل السلام إلى ثقافة تعيش على الأرض في منطقتنا، من خلال عمل جاد والبحث عن حلول مستدامة للقضايا والأزمات، والاقرار بأن السلام "ليس اتفاقية يوقعها طرفان أو أطراف عدة بل أسلوب حياة، بمعنى أنه يتطلب خطوات عملية مستمرة ودوؤبة لرعاية هذا الغرس بحيث يتحول إلى نمط حياة للجميع، وأن اختيار السلام هو اختيار لتحمل مسؤولية كبرى لانقاذ المستقبل من موروثات الماضي.
ثقافة التعايش والسلام هي بالفعل أكثر ما تحتاجه منطقتنا وشعوبنا، وغرسها ورعايتها يحتاجان إلى جهود يشارك فيها الجميع لاستئصال جذور العنف والتطرف وكراهية الآخر.